مَن منا
ذراعان بحجم الكون، وعمر منثور يسبق الخطى، وسنوات تنقضي في رعايتنا، وحب بلا شروط، ودعوات تعرف طريقها دوماً للسماء.
عينان ترقب العود الغض حتى يشتد، وخوف ينزع شوك الطريق، وحدب يزيح الهم، وأمان يعمّ البيت كل مساء.
قلب ينفطر وقت الوجع، ويد تمتد في كل وقت، وباب مفتوح للعطاء.
جسد منهك متعب يترفع عن الشكوى، رغم ثقيل الأحمال، وسعي لا يهدأ رغم الملل، ورأس مرفوع بكبرياء.
صوتُ فريد وسط ضجيج الحياة، وسؤال كل يوم عن الأحوال، وعزّ وعزوة ومتكأ الأوقات الصعبة وعنوان البهجة والضحكات الصافية والذكريات الحلوة التي لم تختبر شقاء.
فرح غامر وسعادة فوق الوصف مع كل نجاح، وأمنيات بالمزيد وحضن دافئ وحنان مهما تعالى البناء.
صبر على العقوق وتجاوز للزلات وعفو بلا ضغينة، وصدر رحب يقبل الاعتذار، وينتظر الغائب والمسافر مهما تأخر اللقاء.
هو الأب، في حياة كل منا قامة ومقام رفيع، وحماية من برد الأيام، وظل وسط هجيرها، وظهر صلب لا يعرف انحناء.
من منا لم ينتظر كل يوم عودة أبيه؟ من منا لم يحتفظ بمذاق حلواه مهما امتد العمر، من منا لم يدسّ يده في معطف أبيه بحثاً عن الدفء وقت الشتاء؟ من منا لم يختبئ خلفه هرباً من عقاب أمه؟ من منا لم يبك بين يديه خجلاً حين رتب على كتفيه رغم الأخطاء؟
من منا لم يحتفظ بنقود أبيه الجديدة في الأعياد؟ من منا لم يمتلك العالم فخراً به وقت معارك الطفولة وشجار الغرباء؟
من منا لم يلذ بحكمته، ويستند على رصيد محبته، ويباهي الناس بسيرته، ويكتب اسمه بكل حروف الهجاء؟
من منا لم يكبر فقط، بعد رحيله؟ من منا لم ينقش ذكرياته في القلب، ويدرك أنه بات وحيداً؟ من منا لم يعرف من دونه معنى الخواء؟
الأب، ذاك النصف الذي يحترق لينير العتمة، ويؤمن المأكل والملبس، ويحتمل حماقات الدنيا من حوله لأجل كلمة «أبي»، ويلبي في كل ساعة النداء.
جميل أن يحتفل العالم بيوم «الأب»، لكن الأجمل أن ندرك قيمته الحقيقية في حياته، ونشعره بقدره قبل رحيله، ونغرس في نفوس أبنائنا عظيم دوره في حياتهم مهما كبروا.
رحم الله كل أب رحل عن دنيانا، وكل عام وكل آباء الكون بألف خير.
مَن منا لم يحتفظ بنقود أبيه الجديدة في الأعياد؟ من منا لم يمتلك العالم فخراً به وقت معارك الطفولة وشجار الغرباء؟
أمل المنشاوي
@amalalmenshawi
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.