«الليلام» 3

قد لا يكون العديد سمع بمّا يسمى بـ«Streisand effect»، الذي تمت تسميته على اسم المغنية والممثلة الأميركية باربرا سترايسند، بعد تحليل الأثر الناجم عن محاولتها منع نشر صور مشروع السجلات الساحلية لكاليفورنيا، وتوثيق صور لمقر إقامتها على قمة جرف في «ماليبو»، وما تبينه من تآكل للساحل، إذ نجم عن مساعيها غير المقصودة انتشار الصور في عام 2003 بشكل غير مسبوق.

ويرمز تأثير Streisand إلى نتيجة غير مباشرة وغير مقصودة لمحاولات إخفاء المعلومات أو إزالتها، أو فرض الرقابة عليها، ليؤدي إلى نتائج عكسية، من خلال زيادة الوعي بهذه المعلومات.

ولعل ما نشهده اليوم من متابعة حثيثة من البعض، ومحتوى هابط يتضمن شتائم وإساءات وعنصرية مقيتة، أو تشبه مسيء وإهانة مباشرة عبر نشر محتوى يسيء للمجتمع الإماراتي، ولا يتوافق مع معايير المحتوى المحلي، ويثير الرأي العام سلباً، وحبس متهمة من دولة عربية، لنشر فيديو من شأنه إثارة الكراهية عبر إحدى قنوات التواصل الاجتماعي، ويتضمن الإساءة إلى الرجال وإلى فئة العمالة المساعدة، بما يتنافى مع الأعراف والأخلاقيات العامة، إلى آسيوي يتشبه بالمواطنين، ويثير السخرية، مبطناً رسائل يمكن أن تفسر باللامبالاة بالمال، وحماقات سلوكية غير مقبولة، يدفعنا للتساؤل: هل التجارة والتسويق بمبدأ الـ«ليلام» سيبقى الأكثر انتشاراً؟ ولماذا لا نقتدي بعبر أدبية ونماذج متميزة لعلها تستحق أن تدرس فن التسويق وأصوله وقواعده؟

إن من النماذج التي تستحق التوثيق والتدريس قصة رواها كل من ابن حجّة الحموي في كتابه «ثمرات الأوراق»، وأبو الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير «الأغاني»، عن التاجر العراقي الذي قَدِمَ إلى المدينة المنورة يَحمِلُ خُمُراً (جمع خِمار) بألوان مختلفة، فَباعها كُلَّها إلا الخُمُر السّوداء، فخشي التاجر الخسارة، وشكا إلى «مسكين الدَّارمي»، ربيعة بن عامر التميمي، أحد سادة قبيلة بني دارم (كان منهم شعراء أشهرهم الفرزدق).

ومع تعاطف ربيعة مع التّاجر، رغم تنَسكه واعتزاله الغزل، قال أبياتاً أنشدت في المدينة، وخلدها التاريخ كإحدى أفضل الحملات التسويقية السابقة لعصرها، حيث قال:

قُلْ للمَليحَةِ في الخِمارِ الأسودِ.... ماذا فَعَلتِ بِزاهِدٍ مُتَعبِّدِ

قَد كان شَمَّرَ للصـــلاةِ إزارَهُ.... حَتى قَعَدتِ لَه بِبابِ المَسجدِ

رُدِّي عَلَيهِ صَلاتَهُ وصـــيامَهُ.... لا تَقتُليهِ بِحَـــقِّ دِيــنِ مُحَــمَّدِ

إن التسويق من ركائز الاقتصاد الإبداعي، الذي قام بدوره بطرق مبهرة في ذلك الزمان، حيث خاطب الشاعر أذهان ووجدان المتسوقين، واستخدم الشعر كأداة مناسبة، ومستحبة لدى العرب، بما يدل على فهم الجمهور (خصوصاً النساء)، وإدراك جلي لكيفية مخاطبة وجدانهن، بأسلوب راق وشائق.

فهل سنرى تعاوناً فنياً تسويقياً يعيد للقصيدة رونقها وأثرها الاجتماعي والاقتصادي؟ وهل نطمح إلى أن تصبح من معايير مسابقات الشعر وجوائز التسويق، أدوات تجدد البعد الثقافي الحضاري والاهتمام اللغوي؟

لا نريد أن يستمر المحتوى الهابط والمسيء، المرتكز على عمليات التكبير، بما يسمى زوراً بـ«التجميل»، أو الانتقاص من الزي الوطني ومن ثقافة وعقل جيل اليوم والمستقبل.

فالتفاهات والمحتوى الهابط لها بصمة مخربة تحتاج أجيالاً من العمل لتنظيف آثارها. وأقتبس بعض كلمات الكاتب الأردني رشاد أبوداود: اليوم «ونحن نستمع إلى ما يسمى (أغاني) تُكتب على ورق أصفر تذروه ريح الشتاء، فلا يبقى منه شيء، نتوق إلى زمن ذات الخمار الأسود، وإلى القصائد المعلقة على صدر لغتنا العربية»!

مستشار إداري وتحول رقمي

وخبير تميز مؤسسي معتمد

الأكثر مشاركة