الناجون من الذكريات
أولئك الذين فتحوا صفحة جديدة مع الحياة، بعد أن مزقوا كتاباً بأوراق صفراء ترقد على صفحاته أشلاء قلوبٍ مكسورةٍ، وكثير من الوعود والأحاديث والصور.
أولئك الذين توقفوا عن الإخلاص للوهم والعيش على حافة الماضي، ومطاردة خيال لن يأتي أبد الدهر.
أولئك الذين اعتزلوا العالم سنوات لإعادة ترتيب فوضى دواخلهم، وانتزعوا حرياتهم من أسر العادة وقيود التعود، وفتحوا مسامهم قبل عيونهم لأشعة الشمس بعد شتاء الأحزان والقهر.
أولئك الذين واصلوا السير بأقدام نازفة، هرباً من صقيع الوحدة ووجع الخذلان، بحثاً عن الصدق والدفء، وتحلوا بجميل الصبر.
أولئك الذين أعلنوا الرفض وانتصروا لكبريائهم، وقالوا بملء أفواههم ألف «لا»، ورحلوا دون التفات للخلف.
أولئك الذين لم يقبلوا نصف الأشياء، ولم يرضوا لقلوبهم نصف الاهتمام ونصف الحب ونصف العطاء.
أولئك الذين صرخوا بلا صوت كل ليلة ألف مرة من وجع الحنين وعذاب الشوق حتى تعافوا، ثم فتحوا مع بزوغ الفجر ذراعاً بحجم الكون، وتنفسوا بعمق حتى التأم الجرح.
أولئك الذين هزموا خوفهم من المجهول، وتغلبوا على ضعفهم، ولم يقبلوا العيش بمزاج غيرهم.
أولئك الذين تركوا المكان حين شعروا أنه لم يعد ملكاً لهم، وبحثوا في العيون عمن يصون ودهم ويحفظ صورهم، وينتظر وصالهم.
أولئك هم الناجون من الذكريات الذين نجحوا في تحرير أنفسهم من دكتاتورية الإحساس الأوحد والحب الأوحد والصديق الأوحد والشريك الأوحد والمشاعر والضحكات والسعادة التي لا تُحس إلا مع ذاك الوهم الأوحد.
أولئك هم الناجون من خوف البدايات الجديدة، وأكذوبة عدم احتمال البعد، والاختيار الخطأ بالبقاء في الجانب المظلم واجترار الألم.
كلنا لديه ذكريات وقصص وحكايات تنغرس في ثنايا القلب، ترافقنا على طول الطريق، كثير منها مبهج وسعيد، وبعضها بطعم العلقم، ومنا من ينجح في المضي حاملاً معه الجميل منها والبعض الآخر للأسف يعيش أسير مرها، يجتر كل يوم أحزانه، ويشقى جُل عمره بها لا يستطيع نجاةً ولا فكاكاً من ندم.
أما الناجون من الذكريات السيئة، فدفنوا أحزانهم وانكساراتهم، وتركوا الأمس وعثراته وأخطائه خلفهم، واختاروا الوقوف في صف الحياة وليس وراءها، وجددوا عهدهم معها، فمنحتهم من خيرها الكثير، وأعادت إليهم ألقها وأنسها وأنستهم كل الألم.
ولكل أولئك الذين يعيشون على ذكرى الماضي وأوهامه، انثروا بذوركم في أرض جديدة، وجربوا بداية أخرى، وامنحوا أنفسكم فرصة تستحقونها مع من يخلص لقلوبكم، ويجاهد للفوز بكم.
@amalalmenshawi
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.