سخافة واحدة تكفي
سألت أحد أصدقائي وهو كاتب متخصّص في الفلسفة، وله قدرة كبيرة على تبسيط المفاهيم الصعبة: لماذا لا يستغل وسائل التواصل الاجتماعي لتقريب الفلسفة من الأجيال الجديدة؟ فروى لي هذه القصة، قال: «كنت في دراستي الثانوية مهتماً جداً بدراسة الفلسفة، وقد قرأت حينها عن وجودية سارتر وتفكيكية دريدا وظاهراتية هوسرل وغيرها، وكان يدرس معنا شاب يقضي وقته لاهياً فارغ الرأس إلا مما أسميه سخافات، وللمفارقة كانت له شعبية كبيرة بين بنات الثانوية، فسألتُ إحدى زميلاتنا المجتهدات عن سر هذه الشعبية، فأجابتني جواباً مفحماً ملخّصه أن صاحبنا الذي تراه تافهاً يعرف آخر أغنية للفنان الفلاني ويروي أحدث نكتة ويقرأ المجلات الفنية مستوعباً أخبارها، أما أنت فتُرعب زميلاتك بأسماء مثل هادغر وفتغنشتاين، فيعتقدن أنك مجنون، وفي أحسن الحالات معقّد، وأنت محظوظ حين لا يذهب بهنّ الظن أنك تحضّر الجن، فلو كنتَ مكانهن فمن تختار بينكما؟!
تأملت قصة أستاذ الفلسفة الكوميدي - تراجيدية وأنا أقف عاجزة عن فهم ما يجري في عالم وسائل التواصل الاجتماعي وبخاصة «تيك توك»، قد أتفهم – ولم أقل إني معجبة أو حتى موافقة – أن يقدم شخص محتوى يراه هو طريفاً ويراه غيره سخيفاً، ويحاول كل مرة أن يقدم شيئاً جديداً عساه ينجح يوماً في إحداث البوز (BUZZ)، ولكن أن تهز كرشك مثل التركي ياسين جنكيز في مئات الفيديوهات بالحركة المكررة نفسها، ويتهافت الناس على أخذ الصور معك، أو أن تصدر صوتاً معيّناً من فمك مثل «بيو بيو» الشهيرة لـ(الظاهرة الفنية) أحمد محسن، ويطلب منك المئات أن تعيدها وبالطريقة نفسها؛ فهذا يفوق استيعابي.
كنا سابقاً نتعجّب بالمعنى الإيجابي من الذين يكتبون كتاباً واحداً فيخلدهم التاريخ مثل ما حدث مع إيميلي برونتي وروايتها الوحيدة «مرتفعات وذرنغ»، أو هاربر لي صاحبة «أن تقتل عصفوراً محاكياً»، أو صموئيل شمعون الذي كتب رواية واحدة هي «عراقي في باريس» ضمنت له مقعداً مع الروائيين الكبار، أما أن تقول جملة واحدة مثلما حدث مع الولد الذي سأله مذيع عما فعلته بهم الجماعات المتطرفة فقال كلمة بذيئة أصبح بعدها مشهوراً تستضيفه القنوات التلفزيونية، فهذا هو الجنون بعينه.
ومن المتناقضات المدهشة أن أشهر «تيكتوكر» في العالم السنغالي/الإيطالي «خابي لام»، والذي يتابعه أكثر من مئة وخمسين مليون شخص، تقوم شهرته على السخرية من المحتوى التافه في الـ«تيك توك» دون أن ينطق بكلمة واحدة، ولكن «سنونوة واحدة لا تصنع الربيع».
لقد طبّق «صانعو اللامحتوى» على الـ«تيك توك» بدقة نظرية وزير الدعاية في ألمانيا النازية غوبلز: «اكذب اكذب حتى يصدقك الناس»، لتصبح في «نظام التفاهة» الذي أصبح يحكم عالمنا الآن: «استهبل استهبل حتى يتابعك الناس».
@DrParweenHabib1
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.