يوميات في العمل الخيري (19)

فقه الأولويات

الدكتور هشام الزهراني

كل فرد في بيته وأسرته ينظم إدارة شؤون المنزل، فيقدم الأهم ثم المهم، والعاجل على ما يحتمل التأجيل ولو كان الثاني مهماً، وقاعدته في ذلك النظر في المصالح المتحصلة والمفاسد المترتبة، مع أن نطاق المنزل محدود وضيق جداً.

ولو خرج عن محيطه فإن الدائرة تتسع، وإعمال الفكر يتطلب التشاور والتباحث مع أصحاب الخبرة والتجارب، والاستفادة من العلوم والمهارات الأخرى، والعمل الخيري من أهم المجالات التي تحتاج إلى بذل كل الطاقة لارتباط عشرات الآف من الناس بخدماتها داخل وخارج الدولة.

فمجالات العمل الخيري واسعة شاسعة، ليس لها ساحل في نظري، حيث إن بعض الاحتياجات عامة شائعة متكررة، وهناك بعض الاحتياجات طارئة، فمن الاحتياجات العامة الصحة والتعليم والسكن، أما الطارئة فهي ما تَحُل نتائج أزمة وقعت في مكان مثل آثار السيول والزلازل والكوارث، أجارنا الله منها، وكذلك الاحتياجات العامة تزيد تارة وتقل تارة بحسب خطط الدول المرسومة في خطوات عملية لتوفير الموارد أو تحقيق الرفاه والصحة.

وقد حاول الفقهاء قديماً تقديم مصارف الزكاة بحسب الأولوية، إلا أن المسألة تخضع لاعتبارات كثيرة، فلا يمكن وضع قاعدة رياضية ثابتة، والمرونة في ذلك تستدعي إعمال النظر في المصالح والمفاسد.

فقدم البعض ما قدمه الله في كتابه؛ الفقير والمسكين، وذكرهما في القرآن منفصلين مع أنهما يتداخلان في المفهوم عند الناس وفي الشرع كذلك، فاستنبط من ذلك أن التفريق بينهما بأن كان كل منهما صنفاً برأسه؛ دليل على مزيد رعاية بهما وأنهما المقدمان، ذلك لورود ذكرهما أكثر من الأصناف الباقية وفي مواطن كثيرة.

وقيل إن إنقاذ الإنسان من النار أولى من منح غرض دنيوي مثل التعليم والدواء، فالمقدمون هم المؤلفة قلوبهم، وقيل بل حماية الأشخاص والشعوب وإبقاء المهج والأنفس ضرورة، فيقدم صنف سبيل الله على غيره، وهكذا تباينت الآراء، وكلها لا تخلو من علة واستنباط وجيه، والمقدم هو ما يحقق المصلحة الراجحة أو يدفع المفسدة الراجحة كما سبق.

وكلام الفقهاء السابق كان مقتصراً على بند توزيع أموال الزكاة فقط، فكيف بالمجالات الأخرى الكثيرة المتعلقة بالأوقاف أو بالصدقات العامة التي تأخذ حيزاً كبيراً في أنشطة الجمعيات الخيرية، فكان الفقه بهذه الأولويات تحت مظلة المصالح والمفاسد مطلباً أكيداً على من تقلد سياسة الجمعيات الخيرية، ومنح الصلاحيات الكبيرة بالتصرف في مئات الملايين من الدراهم، فكان الله في عونهم ووفقهم وسدد خطاهم في إدارة شؤون الجمعيات الخيرية.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر