اختيار
عندما تقرأ التاريخ تتخيل أن الاختراعات وليدة إلهامات عبقرية، أو ربما نزلت من السماء، ولكن الحقيقة أبسط مما نتصور.
سواء تحدثنا عن اختراع لعبة مثل كرة السلة، أو نظام عمل مؤسساتي كفء تبنته مؤسسات عدة حول العالم، فإن الحقيقة هي أن عقولنا توصلت إلى لحظة «وجَدْتُها» بأسلوب الاختيار الذكي أكثر منها فكرة جديدة أو أصلية بالتمام والكمال.
أصل كل اختراع أو اكتشاف مشكلة كبيرة يعانيها المخترع أو المبتكر أو المفكر، ويقسّمها إلى مشكلات صغيرة، ويبحث عن حل لكل واحدة منها على حدة، سواء بحل موجود سابقاً، أو جديد مبتكر، وعندها يجمع حلول كل المشكلات الصغيرة تحل المشكلة الكبيرة تلقائياً.
منذ أواخر التسعينات توصل علماء نفس الاجتماع إلى حقيقة مفاجئة، هي إن أردتَ إرضاء شخص فلا تضع أمامه خيارات غير محدودة، بل أعطه بعض الخيارات، لكن اجعله يرى محدوديتها.
بهذه الطريقة سيختار خياراً مفضلاً بثقة أعلى.
الاختيار هو العنصر النشط في معادلة الابتكار، فكل مبتكر عظيم عبر التاريخ حل مشكلته الكبيرة بالإتيان بحلول فعالة للمشكلات الصغيرة التي تكوّن مجتمعةً المشكلة الكبيرة، سواء فعل ذلك بوعي أو بلا وعي.
عام 1899، مثلاً، عندما أسس هنري فورد شركته، كان تركيزه على كيفية صنع سيارة يستطيع شراءها كل فرد في المجتمع.
وقسم مشكلته الكبيرة إلى مشكلات صغيرة عدة: كيف أخفّض تكلفة العمالة؟
كيف أخفض مدة الإنتاج؟
كيف أخفض تكلفة مواد الإنتاج؟
توصل فورد إلى خيارات عدة لكل من المشكلات السابقة، وكلها خيارات موجودة سابقاً، لم يخترع أياً منها. فعرف أن شركة أولدزموبيل طورت خطاً للإنتاج قلّل عدد العمال المطلوبين لصنع سيارة واحدة.
كما استلهم فورد فكرة أخرى من مسلخ في شيكاغو، هي خط التفكيك، حيث رأى العمال يجزئون الحيوانات المذبوحة.
وهنا أدرك فورد أنه يستطيع تخفيض وقت الإنتاج بتحريك المنتج على خط الإنتاج بدل تحريك العمال على الخط.
كما تمكن من خفض تكلفة مواد الإنتاج باستخدام صباغ أسود خاص، يجف بسرعة على المعادن، ويترك بريقاً عند استخدامه بكميات قليلة أكثر من أصباغ السيارات المستخدمة في ذلك الوقت.
وعندما دمج كل هذه الحلول ببعضها بعضاً استطاع أن يخفض سعر سيارة فورد من 1000 دولار في عام 1900 إلى 265 دولاراً عام 1924.
مثال آخر: كان جيمس نيسميث مدرّس تربية رياضية عام 1891 في ولاية ماساتشيوسيتس، وأراد أن يوجد لطلابه لعبة يستطيعون ممارستها في بيئة أبوابها مغلقة، حتى تقيهم برد شتاء إقليم نيو إنغلاند القارس.
لم يفكر نيسميث في اختراع لعبة جديدة، ولكنه قسم مشكلته إلى مشكلات صغيرة:
يجب أن تكون خلف أبواب مغلقة، وليست في مساحة مكشوفة واسعة: يعني ملعبها أصغر حجماً.
اللعبة ستحتاج إلى السرعة والجهد والمهارة وتعقيدات ألعاب الهواء الطلق، حتى تحافظ على لياقة الطلاب البدنية والذهنية.
يجب ألا تتضمن عنفاً، لأن اللاعبين سيسقطون على أرض صلبة، وليس على عشب.
يجب أن تتضمن لعباً جماعياً يشارك فيه كل الفريق دفعة واحدة في المساحة المحدودة المغلقة.
وهكذا توصل إلى اللعبة الجديدة كرة السلة، التي عاشت لأكثر من 130 عاماً، لتصبح صناعة تساوي مليارات الدولارات.
abdulla_AlQemzi@
Abdulla.AlQamzi@emaratalyoum.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.