مدرسة الاستدامة
يعلم الجميع اليوم بأن المناهج الدراسية تشتمل على كل من الكتب المدرسية التقليدية والمصادر التعليمية الحديثة، مثل الكتب الإلكترونية والحواسيب وشبكة الإنترنت، بكل ما تحويه جميعها من معلومات ومفاهيم علمية وأدبية تمثل الركيزة الأساسية لكل نشاط تعليمي مهما كانت درجته أو سويته، فمن المدرسة الابتدائية وحتى رسالة الدكتوراه تصبّ جميع المراحل في بوتقة الثقافة والمعرفة؛ إلا أن ما نشهده اليوم من تحديات عالمية بيئية واقتصادية تفرض على المدارس والمؤسسات التعليمية أن تضطلع بدور جديد يتخطى دورها التقليدي المتمثل في نقل المعرفة، أي أن عليها اليوم التحوّل من مجرد واحات تعليمية تُعنى بالمعارف والخبرات إلى مؤسسات كبرى تعمل في الخطوط الأمامية من أجل تحقيق الاستدامة وتعزيز رفاهية الناس والمجتمعات.
ومن هنا ينبع التساؤل حول الخطوات التي يجب أن تتبناها المؤسسات التعليمية في سبيل مستقبل أكثر خضرة، ولعل الإجابة عن ذلك تتمثل أولاً في غرس الشعور بالمسؤولية بين الطلاب، ومن ثم تمكينهم من ترجمة المفاهيم النظرية التي يتلقونها إلى تغيير ملموس؛ فالمدارس اليوم مطلوب منها العمل على تحقيق التحول السلوكي الأهم من خلال توسيع مفهوم الاستدامة ليشمل، إلى جانب البيئة، كلاً من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وبعبارة أخرى، يجب أن يفهم الطلاب الاستدامة كمفهوم شامل يتخطى سائر الأبعاد البيئية؛ وبما أن المناهج هي بمثابة العمود الفقري لأي مؤسسة تعليمية فلابد أن تبدأ الرحلة من خلالها، وعليها جميعها أن تدمج مساراتها مع مسارات التنمية المستدامة، أي مساعدة الطلاب على فهم الترابط ما بين التحديات العالمية وما بين الممارسات المستدامة، خصوصاً مع تزايد حدة تلك التحديات مثل تغير المناخ واستنزاف الموارد والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها.
ومن هنا تأتي الممارسات المستدامة لتقدم حلولاً شاملة تتناول الأسباب الجذرية بدلاً من معالجة الأعراض، ولتؤكد أيضاً أن التوازن المتناغم بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة هو السبيل الوحيد لضمان سعادة الأجيال القادمة. فعلى سبيل المثال يمكن أن تعمل المدارس على تعزيز السلوكيات الصديقة للبيئة من خلال التركيز على بعض الإجراءات البسيطة المنوطة بالطلاب والدارسين، نذكر منها القضايا المتعلقة بإعادة التدوير والحفاظ على المياه وترشيد الطاقة، إضافة إلى التشجيع على استخدام وسائل النقل المستدامة؛ كما يمكن للمدارس أيضاً أن تكون قدوة بحد ذاتها من خلال تبني مشاريع البنية التحتية الخضراء وتطبيقها على الأبنية المدرسية، مثل الألواح الشمسية وأنظمة تجميع مياه الأمطار، وحتى الملاعب والمرافق الرياضية لتلك المدارس يمكن تصميمها بمنظور صديق للبيئة، وباستخدام مواد مُعاد تدويرها تضمن الحد الأدنى من الإزعاج البيئي؛ كما يمكن للمدارس أيضاً أن تقوم بإنشاء أندية بيئية تعمل بعيداً عن أوقات الدراسة الفعلية، بحيث تعمل تلك الأندية على الدفع باتجاه المبادرات الصديقة للبيئة مثل المشاريع المستدامة وحملات التوعية المجتمعية، جنباً إلى جنب مع إمكانية تدريب الطلاب بالتعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة على كل ما يتعلق بقضايا الاستدامة الخاصة بالفرد والأسرة والمجتمع ككل.
ولأنهم حاملو شعلة التغيير، يأتي المعلمون في مقدمة العناصر التي يجب أن تركّز عليها الإدارات المدرسية، فعمليتا تعزيز البنية التحتية وتطوير المناهج الدراسية يجب أن يرافقهما مجموعة متكاملة من الدورات التدريبية وورش العمل المنتظمة للمعلمين، حيث تضمن تلك الجلسات التي تُجرى بالتعاون مع المختصين والأساتذة الجامعيين زاداً غنياً يمدّ المعلمين بأحدث المعارف ومنهجيات التدريس المبتكرة التي تساعدهم على دمج مفاهيم الاستدامة في جميع ممارساتهم التعليمية بكل يسر وسلاسة.
لا شك في أن الرحلة نحو الاستدامة الشاملة هي رحلة شاقة ومملوءة بالتحديات، خصوصاً أن عالم اليوم يقف على أعتاب تغيرات بيئية لا يُعرف مداها ولا مستقرها؛ إلا أن الأمل يبقى معقوداً دوماً على الناشئة من أولادنا وأحفادنا، ومعهم طبعاً يتجلّى دور المدارس في صقلهم وتهيئتهم لعالم المستقبل وبحره المضطرب، ذلك البحر الذي لن يخفف من هدير أمواجه سوى دفة الاستدامة.
• تحديات عالمية بيئية واقتصادية تفرض على المؤسسات التعليمية الاضطلاع بدور جديد يتخطّى دورها التقليدي.
مؤسس سهيل للحلول الذكية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.