أعطني يدك.. مرّةً أخرى

«مساء الفل يا ست الكلّ» التفتُّ لأرى مصدر هذا الصوت الناعم، فوجدت طفلاً لم يجاوز العاشرة من عمره، يحمل بين يديه عقوداً مصنوعة من الفلّ يعرضها عليَّ لأشتري منه. نظرت إلى عينيه المفعمتين بالبراءة وإلى يديه المثقلتين بما يحمل فآذاني منظر هذا الطفل الوحيد على الساعة العاشرة من ليل القاهرة، دفعته الحاجة إلى تقمص دور الكبار معرّضاً نفسه للاعتداء ولكل أشكال الانتهاكات بدل أن يكون نائماً في بيته مع إخوته منتظراً الصباح ليذهب إلى المدرسة مثلما هو الوضع الطبيعي لمن هم في سنّه.

ورغم ذلك يبقى أفضل من ملايين غيره من الأطفال المشردين أو المستغَلّين أو حتى المقتولين في العالم. والأرقام مخيفة جداً حيث هناك قرابة 40 مليون طفل مشرد في عالمنا حسب منظمة «اليونسكو». وخلال السنوات الـ10 الماضية فقط هناك مليونا طفل قتيل، وخمسة ملايين طفل معاق، و10 ملايين طفل مصاب بصدمات نفسية. وهذه الأرقام في ازدياد مستمر. ما دامت الحروب قائمة والضعفاء من النساء والأطفال هم وقودها المفضل.

حين وقعت حادثة الطفل المغربي ريان الذي بقي محبوساً في بئر وقع فيها خمسة أيام ولم يستطيعوا إنقاذه، استحضرتُ صورة الطفل الكردي الذي لفظه البحر على الشاطئ، ولم أستطع لجم تأثري بوفاتهما حتى كتبت قصتي للأطفال «أعطني يدك»، وكانا فردين فقط رغم قساوة ما حدث لهما، فما الحل الآن مع الآلاف الذين يموتون نتيجة الحروب والزلازل والفيضانات؟

لا يجب أن يصبح الأطفال الضحايا مجرد عدد قابل للارتفاع دون أن يثير فينا سوى شعور بالتعاطف اللحظي في عالم يزداد قسوة وبشاعة. هم ليسوا أرقاماً بل هم مستقبل هذه البشرية وغدُ إنسانِها الذي يفترض أنه يعيش عصر القيم الكبرى من ديمقراطية وحقوق إنسان وحرية تعبير وحق اختلاف. فمن المحزن أن نقرأ مثلاً في اتفاقية حقوق الطفل التي وقّعت عليها أغلب دول العالم: «يجب توفير القدر الكافي من الخصوصية للأطفال، وعدم التدخل في حياتهم بالشكل المبالغ فيه»، في الوقت الذي لا نستطيع حتى توفير الحماية لهم من القتل والاغتصاب والتهجير والتشرد.

نحن عالقون في معادلة وحشية لا نستطيع حلّها على المدى المنظور في أقل تقدير، وفي مواجهة وضع مثل هذا لا نملك إلا أن نتمنى لبائع الفل الصغير في ليل القاهرة أن يعود بأمان إلى بيته بانتظار يوم نقول له فيه «أعطني يدك».

@DrParweenHabib1

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.