أقنعوني ولا تقمعوني
في 24 أكتوبر سنة 1973، انتهت حرب العاشر من رمضان أو حرب أكتوبر، وبعدها بأربعة أيام، أي في الـ28 من الشهر نفسه، توفي عميد الأدب العربي طه حسين. وقبل ثلاثة أيام مرت الذكرى الـ50 على وفاته متزامنة مع الحرب في غزة. وكما مر رحيله قبل نصف قرن دون ضجيج فصوت «حرب تشرين» - كما يسميها أهل الشام - كان أعلى من وفاة فرد، مهما بلغ تأثيره في الأدب العربي. كذلك مرت خمسينيته على استحياء خافتة في ظل القصف وهدير الطائرات المخيف، ولكن هذا لا يمنع من الوقوف لحظة تأمل في مسيرة شخص ألقى حجر التفكير في بركة الثقافة العربية الراكدة يومذاك، منذ أن أصدر قبل نحو قرن (سنة 1926) كتابه الإشكالي «في الشعر الجاهلي» الذي أوصله إلى المحكمة، وكُتبت كتب عدة في الرد عليه، في بعضها ما كاد يخرج الرجل من الدين. وما كانت هذه المعركة لتسكت طه حسين، وهو العنيد في ما يعتبره حقاً منذ أن كان طالباً صغيراً يشاكس شيوخه الأزهريين، فعاد إلى تحريك الجمود بكتابه «مستقبل الثقافة في مصر».
ويتفق الموافق لطه حسين والمخالف له على أنه الرجل الذي فتح باب العلم لملايين الطلبة المصريين، عبر إصراره على مجانية التعليم، ويكفي أن نذكر أنه اشترط لقبول الوزارة أن يكون التعليم الثانوي مجاناً، وكان له ما أراد، إضافة إلى دفاعه وتشجيعه للبنات على التعلم، وبفضله سمعنا بأمثال درية شفيق، وأمينة سعيد، وسهير القلماوي، من رائدات النهضة النسوية الأدبية والفكرية في مصر. وحين ألّفتُ كتابي «أبصرت بعينيها.. المرأة في حياة طه حسين وأدبه» (نشره مركز أبوظبي للغة العربية)، كنت إضافة إلى تناول جانب مهم لم يدرس عنده، أردّ بعض جميله لما قدّمه للمرأة في العالم العربي من مواقف ودعم. بل كان لا يستنكف في مجتمع ذكوري محافظ، كما كان العالم العربي في أواسط القرن الماضي، أن يعترف بجميل زوجته عليه، فيصفها بأنها «المرأة التي أَبْصَرْتُ بعينيها»، بما جرّه ذلك عليه من تنمّر فكري حفظته لنا جرائد ذلك العهد.
يجدر بنا في ضوء تنامي الرجعية الفكرية، وارتفاع لغة الإقصاء، أن نعيد قراءة الفكر التنويري لطه حسين، ونعرّف به شبابنا. وحسناً فعلت الهيئة المصرية العامة للكتاب في ذكرى خمسينيته بإعادة طباعة مجموعة مهمة من كتبه، تحت عنوان «استعادة طه حسين».. فما أحوجنا اليوم إلى الشعار الذي أطلقه يوم اشتدت الحملة عليه في قضية الشعر الجاهلي، حين كتب: «جادلوني بدلاً من أن تتّهموني، فإنّ ما أكتبه هو اقتراح للمناقشة، أقنعوني ولا تقمعوني».
@DrParweenHabib1
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.