حلم في الصعيد
زرت صعيد مصر مرتين، تفصل بينهما سنتان، وكان عميد الأدب طه حسين، هو الذي أخذ بيدي إلى الصعيد في الزيارتين، أولاهما كانت للتعرف إلى استراحته التي كتب فيها رائعته «دعاء الكروان» بين آثار تونة الجبل بالمنيا، وحيث محل تصوير الفيلم المستمد من القصة نفسها، الذي أخرجه الكبير هنري بركات، وأصبح عن جدارة واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية.
أما زيارتي الأخيرة قبل أيام، فكانت بدعوة كريمة من الدكتورة مرفت عبدالناصر، مع 15 باحثاً، لحضور مؤتمر نظمته مؤسستها «هيرموبوليس الجديدة» بمقرها غير البعيد عن استراحة طه حسين والآثار الفرعونية بتونة الجبل، للاحتفاء بخمسينية طه حسين، تحت شعار «الأيام من بيتوزيرس إلى طه حسين». وأحدثت لي تلك الساعات الأربع بالسيارة من القاهرة إلى هذا المنتجع النائم على كتف الصحراء، نقلة أشبه بما حدث لأليس في بلاد العجائب، فقد خرجت من ضوضاء المدينة وأنوارها وحركتها التي لا تهدأ، إلى حيث يمكن أن تجالس الصمت وتشربا كوبي شاي قرب بركة مغطاة بزهر اللوتس.
مجموعة فلل تقرأ على أبوابها أسماء فلاسفة وأدباء عالميين، فهذه فيلا أفلوطين، وتلك فيلا ريلكة، وثالثة تحمل اسم إمبرتو إيكو، وكان من نصيبي أن شاركت الشاعر الإنجليزي ييتس فيلته. يومان تمنيت لو لم ينتهيا، كان طه حسين الحاضر الأكبر من خلال مداخلات عنه ومن خلال أغنيات مسلسل الأيام التي كتب كلماتها سيد حجاب - وزوجته مرفت الجسري كانت حاضرة معنا - ولحنها عمار الشريعي، وأدّتها فرقة كورال جمعية الصعيد بالمنيا ومن خلال معرض للصور وبعض ما كتب عن طه حسين، ومن ضمنها كتابي «أبصرت بعينيها».
وما كان لهذا اللقاء المختلس من لحظات العمر الجميلة ليقام لولا إيمان الدكتورة مرفت عبدالناصر، تلك السمراء المصرية التي عاشت عقوداً ثلاثة في بريطانيا طبيبة نفسية حالمة بجزيرة إبداعية في قلب الصعيد، كل ما فيها يغري بالكتابة والتأمل، ويهب العزلة التي لطالما تاق إليها الكتّاب. منتجع لا يحمل فخامة المنتجعات السياحية وبهرجتها، لكن يتمثل روح المعماري الكبير حسن فتحي، ببساطة تصميماته ووظيفتها المتمثلة أساساً في توفير معتزلات للكتابة ذات طاقة إيجابية عالية، لا أراها حكراً على الكتاب فقط، بل هي فضاء مثالي لمن ينشد التأمل والسكينة. شيء واحد ينقص هذا المشروع الرائد، هو جهل كثير من المثقفين والأدباء والباحثين به، فهو قائم منذ أكثر من 10 سنوات، لكن وسائلنا الإعلامية - إلا القليل - تتجاهله، وتضيء على كل ما هو تافه وسطحي. جدير بـ«هيرموبوليس الجديدة» أن يصل صوتها إلى الجهات الرسمية، وإلى المثقفين على السواء، حتى نثمّن منجزاً ثقافياً رائداً لم يكن قبل سنوات مضت سوى حلم امرأة محبة لبلدها.
DrParweenHabib1@
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.