المرأة التي لوّنت الحلم
لنتخيل صبيةً مراهقةً من بيت عبدالله بن حسين في شارع نايف بدبي مثلاً، وفي سبعينات القرن الماضي، تحلم أن تصبح رسامة كبيرة تُعرض لوحاتها في العالم أجمع، وتُلاحق حلمَها بإصرار عجيب وشجاعة كبيرة، فتسافر إلى العراق بلد فائق حسن وجواد سليم لتَدرُس الفن في أكاديمية بغداد، ثم لا يَروي ظمأَها للإبداع سوى أن تربط سحر الشرق بتجريب الغرب، وعلى بساط اللوحة تطير إلى واشنطن لتقيم سنواتٍ مستزيدةً مستفيدةً. وحتى يتألقَ الحلم أكثر تجاورُ الصبية - التي أصبحت امرأة ناضجة - «جولييت» حبيبة روميو في مدينة فيرونا الإيطالية، ومن هناك تتأمل العالم في هدوء وتفعل الشيء الذي نذرت عمرها له: الرسم.
ما كتبتُه ليس حكاية سقطت سهواً من «ألف ليلة وليلة»، بل هو تلخيص سيرة الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، التي وصفتها الصحافة الفرنسية ذات معرض قبل 20 سنة بهذه الطرافة «اُمزُجْ بين المشاغَبة والحيوية، وأضفْ إليها نكهة الصراحة، ورُشَّ عليها الموهبة، وهُزَّ واسكُب فهنا فاطمة لوتاه»، وبقدر ما أحبّتِ الهدوء الخارجي والسكون المحيط بها، سواء في محترفها بفيرونا الساحرة أو الاستديو الفني «بيت 35» في حي الفهيدي التاريخي بدبي، كانت روحها تعجّ بآلاف الصور والأشكال والرسوم لم يخفف غليانها سوى ولعها الدائم بالتجريب، متنقلةً بين التعبيرية والواقعية والتجريدية والحروفية، لا تهم الأدوات سواء أكانت حبراً أو إكليريك أو ألواناً زيتية أو مائية أو حتى وسائل رقمية. فقلم الرصاص وأزرار الجوّال ليسا سوى جهاز تَنَفُّسٍ تُنَفِّسُ به فاطمة ثورة البركان الفني التي تغلي في جسدها النحيل.
حملت الصحراء التي ولدت فيها وعشقتها إلى العالم، وجلبت العالَم بحيويته وتغيراته وحراكه اللامنتهي إلى لوحتها. وما بين شقرة الرمل وزرقة الموج تناسلت وجوه المرأة الإماراتية في رسومها لابسة برقعها منتظرة زوجها على السيف عائداً من رحلة الغوص، أو مترفة متنعمة في كامل أناقتها، لا فرق. وتنصف الأطفالَ - الحلقة الأضعف في هذا الوجود - من بغداد إلى دمشق وصولاً إلى الجرح النازف في غزة. لتبقى فاطمة دائماً «تستخرج من الموت فناً راقياً»، كما وصفتها إنعام كجه جي يوماً.
رغم 20 سنة من تقديم البرامج الثقافية في دبي، ورغم أن فاطمة لوتاه رمز إماراتي تشكيلي كبير، تسرّبَ - كالرمل بين الأصابع - موعد لقائي التلفزيوني بها مراراً، ويقيني أنه سيحصل حين ينضج موعده، لذلك كانت سعادتي غامرة حين طُلب مني في مهرجان «ضيافة» أن أكرم فاطمة، فطِرتُ إليها بخفة فراشة محلّقة صوب الضياء، على كتفيّ كوفيّة لأقبِّلَ جبينها، وأحضنها وكأني أحضن دبي التي أكرمتني وأخذت بيدي إلى درب النجاح، أوليست فاطمة ودبي وجهين لعملة واحدة؟!
@DrParweenHabib1