الإبداع والمكان

إبراهيم استادي

في زيارتي الأخيرة لاستوديو سفير الألحان فايز السعيد، انبهرت بحجم استثماره في المكان، فسألته: «لماذا أنت في حاجة إلى مكتب كبير يضم استوديوهات عدة في زمن أصبحت استوديوهات الصوت تصغر شيئاً فشيئاً؟»، فأجابني بعاطفة شديدة تأثرت بها، بأن «المكان أكثر بكثير من مجرد استوديو، وأنه بيت للمبدعين والتواصل بين الزملاء والأصدقاء، وأنه يحمل كثيراً من ذكريات البدايات، وطاقة كل المبدعين الذين مرّوا به وتركوا أثراً، وليس بوحمدان الوحيد في هذه البقعة فحسب، فكثير من استوديوهات الصوت موجودة في منطقة أم هرير، التي تُعدّ من مناطق دبي القديمة».

كما أن الفنانة التشكيلية الإماراتية القديرة فاطمة لوتاه، رغم وجودها الكثيف في الإمارات، فإنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاستوديو الذي تبدع فيه أعمالها الفنية في إيطاليا حيث تقيم، وكأن المكان هو محفز أساسي لولادة أي عمل فني وصبغته، وهذا أحد أسباب عودتها إلى هناك دائماً، كما ذكرت في أحد لقاءاتها.

مثال آخر على ارتباط الفنان بالمكان، هو ارتباط فرقة مسرح دبي الوطني، وفرقة الفنون الشعبية بجمعية دبي للفنون الشعبية بالمكان، فرغم محاولات الحصول على دعم لترميم المكان، ورغم تصدع الجدران وقدم المبنى الذي يضم أول خشبة مسرح مخصصة للعروض المسرحية في دبي، والتي بنيت في عام 1977، فإن أبناء المكان لا يفارقونه، ومازالوا - رغم قلة العروض المسرحية هناك - يتجمعون ويلعبون «البلياردو»، ويقيمون ورش تدريبية للفنانين الجدد، ويستغلون قاعة المسرح للتمرينات في المواسم التي تزداد بها الحاجة إلى القاعات للبروفات.

وعندما بدأت أبحث عن ارتباط الفنان بالمكان، وجدت أن هذه المسألة كانت - ومازالت - تشغل الكثير من الكُتّاب والمفكرين، فوجدت عشرات الفيديوهات والمقالات التي تتناول الموضوع نفسه، عندها اطمأنيت بأن تساؤلي هذا طبيعي جداً، وقد اتفق معظم الذين قرأت لهم واستمعت إلى أحاديثهم بأن الاستقرار في المكان هو ضرورة فنية، وهذا لا يعني عدم التجديد، ولكن فكرة الانتقال من مكان إلى آخر قد تؤثر بشكل مباشر في استمرار التدفق الإبداعي، ولهذا تجد في جميع أنحاء العالم أن كثيراً من المسارح والاستوديوهات الصوتية والتشكيلية تكون في أماكن قديمة جداً، ولا تنتقل رغم تغيّر وتحوّل بيئة المنطقة من حولها حفاظاً على الديمومة الفنية، ومثال إيجابي على ذلك، هو المجمع الثقافي، الذي رمم وأعيد افتتاحه ليطل منارة ثقافية تنير سماء الإمارات من قلب أبوظبي، وفي أكثر مناطقها حيوية وحركة.

ibrahimustadi@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر