«ابعثلي واتس أب وطمنّي»
تذكرتُ وأنا أحضر تتويج الروائي الجزائري واسيني الأعرج بجائزة «نوابغ العرب» قبل أيام في متحف المستقبل، أنّه كان مسافراً فجراً بعد أول لقاء تلفزيوني لي معه، وترك لي في مكتب الاستقبال بالفندق مجموعة من كتبه، وكانت مفاجأتي السعيدة حين وجدت طيّها رسالة رقيقة بخط جميل وأسلوب أجمل، ورددت عليه يومها طامحة أن أحيي أدب الرسائل غير أن التكنولوجيا الحديثة – سامحها الله – وأدت المشروع في مهده. وأحمد الله أن «الواتس أب» لم يظهر في زمن كافكا، وإلا لم تشعل قلوبنا جملة مثل: «وأنتِ يا ميلينا لو أحبَّكِ مليون فأنا منهُم، وإذا أحبَّكِ واحدٌ فهذا أنا، وإذا لم يُحبَّكِ أحدٌ فاعلمي حينها أنِّي مُتّ». ولا تَرَجّى جبران مي زيادة قائلاً: «أستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة المجنّحة التي تعلو فوق سبل البشر»، واكتفى برسالة عبر «المسنجر» من ثلاث كلمات: «مرحباً.. ما أخبارك؟».
فقد الثالوث المحبب إلى نفوس القراء: السيرة الذاتية والمذكرات وأدب الرسائل أحد أضلاع مثلّثه حين انتفى البعد وأصبح استحضار أي شخص بصوته وصورته أشبه بما قاله ذلك الرجل للنبي سليمان عن عرش بلقيس «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ»، فالبوح ابن الشوق ووسائل التواصل ذبحت الشوق بدم بارد. كم فقد الأدب العربي من نصوص ثرية مدهشة حين أغلق هذا الباب أو يكاد، فقد كانت تنتج هذه المراسلات كتباً لها قراؤها المعجبون، فأنصار الرافعي لايزالون يستمتعون بقراءة «أوراق الورد» و«رسائل الأحزان»، ومحبّو درويش يضمون إلى دواوينه رسائله مع سميح القاسم، أما غادة السمان فحركت ركود الساحة الأدبية برسائل غسان كنفاني وأنسي الحاج إليها. ولو جمعنا فقط مراسلات مي زيادة مع أعلام عصرها مثل مراسلاتها مع جبران في كتاب «الشعلة الزرقاء» لحصلنا على مادة ثقافية ثرية شعراً ونثراً، ترسم لنا لوحة للثقافة في نصف القرن العشرين الأول. حتى الرسائل العادية والعائلية حين تصدر عن كاتب تكتسب قيمة أدبية، فهو لا شعورياً أو حتى شعورياً يضمِّنها أفكاره ومشاريعه وأسلوبه، لذلك مثلاً نرى الحرص على نشر 7000 رسالة كتبها أرنست همنغواي في حياته، يقدّر أن تصدر في 17 مجلداً. وأليس مثيراً للدهشة أن الباحث فيليب كولب صرف من عمره 60 سنة ليجمع 21 مجلداً من رسائل بروست، لو كانت في زماننا لاختفت بالغلط حين نكبس على زر «حذف الرسائل»! وكم يتملكني الفضول عن مصير الرسائل الأدبية التي تبادلها كتابنا الكبار الأحياء، فهل يملكون جرأة غادة السمان وينشرونها؟ أم سيكتفون في رسائلهم بجملة «ابعثلي (واتس أب) وطمنّي»؟!
DrParweenHabib1@
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.