الأشهرُ الحُرُم
فضَّل الله تعالى بعض خلقه على بعض من الأشهر والأيام والليالي والساعات، كما فضل بعض الناس والأماكن وغير ذلك؛ لما جعل في المُفضَّل من مِيزة لا توجد في غيره؛ لينبه عباده إلى فضله فيغتنموه، كما يروى: «إنَّ لربكم عز وجل في أيام دهركم نفحات، فتعرَّضوا لها، لعل أحدكم أن تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً».
ونحن نعيش في أول الأشهر الحُرم التي فضلها الله تعالى على غيرها، وجعل من ميزتها أن يضاعف فيها العذاب لمن انتهك حرمتها، كما قال سبحانه: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، وهذا نهي صريح عن انتهاك حرمتها لما يترتب على ذلك من ظلم المرء نفسه بمؤاخذة الله تعالى له إن هو انتهك حرمتها.
وقد كانت العرب تسمي رجب «الأصم» أي الذي يصمت فيه السلاح تعظيماً له، حتى أن الرجل ليلقى قاتل أبيه فلا يزعجه، تعظيماً للشهر الحرام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول عند دخوله: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبارك لنا في رمضان»
ولما جاء الإسلام زادها تعظيماً وتشريفاً، لذلك قال ربنا سبحانه: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي باقتراف المعاصي لاسيما الكبائر كالقتل ونحوه، ولم يبح الشارع فيه القتال إلا دفاعاً عن النفس، إذا حصل اعتداءٌ عليها فيه فيجوز دفعه، وقد بين النبي، عليه الصلاة والسلام، هذه الأشهر الحرم بقوله: إنَّ «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القِعدة، وذو الحِجة، والمحرم، ورجب مُضر، الذي بين جُمادى وشعبان».
وأما فضل الأعمال فيها عن غيرها فلم يرد في ذلك شيء بخصوصه إلا عموم قوله، عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصيام، بعد رمضان، شهرُ اللهِ المُحرَّم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل»، وهذا يشمل عموم الأشهر الحرم، ويشهد له ما أخرجه أحمد من حديث أسامة رضي الله عنه، وقد سأله عن سبب كثرة صيامه في شعبان، فقال: «ذاك شهرٌ يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان» أي أن الناس يعتنون برجب؛ لأنه شهر حرام، فيكثرون فيه العبادة، فهو كالتقرير لهم على ذلك، وتقريره صلى الله عليه وسلم من سُنَّته، وإنما يغفل الناس عن شعبان؛ لأنه ليس من الأشهر الحرم، فدل على أن العبادة في وقت غفلة الناس أفضل منها في غيرها، حتى لا يغفل مع الغافلين.
جعلنا الله تعالى من الذاكرين غير الغافلين.
*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه