غِذاء العقل
للجسد غذاءٌ يعيش به ولولاه لهلك، وللعقل غذاءٌ لولاه لهلك أيضاً، فغذاء الجسد مادي ضروري لاستبقاء الحياة؛ لأن الجسم يحتاج طاقة غذائية تقيم أَوَدَه، وغذاء العقل معنوي، وهو القراءة التي هي الخاصة الكُبرى لابن آدم، وهو ضروري أيضاً ليبقى العقل سليم التفكير، قادراً على أن يؤدي وظيفته كقائد للجسم لما فيه خيرا الدنيا والآخرة، وإلا كان عقيماً لا ينتج شيئاً، وسيظل تابعاً لغيره يوجَّه كما تُوجه الأنعام، وهذا لا يتناسب مع كرامة الإنسان الكريم على الله تعالى، وما نال الكرامة إلا بسبب عقله الذي تميز به عن سائر الخليقة، وجعله مناط التكليف، ومحل التشريف. وكما قال الأديب صالح بن عبدالقدوس:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسرانُ؟!
انهض إلى النفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
وغذاء العقل الاستفادة من عقول الآخرين التي بثوها في صفحات الكتب، أو كان تلقِّياً مباشراً منهم، لذلك نجد ربنا سبحانه وتعالى جعل القراءة أول الأوامر الإلهية لنبي البشرية، وهو أمر لأمته لأنه عليه الصلاة والسلام أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وتلك إحدى معجزاته العظيمة لكيلا تُتقول عليه بعض الأقاويل بأنه أتى بالقرآن الكريم من عنده.
وإنما كان أمراً لأمته لأنها هي التي ستحمل رسالته وشريعته جيلاً بعد جيل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، والأمة بحاجة لفهم القرآن الكريم المعجز في تشريعاته كإعجازه في بلاغته وفصاحته، وفهم سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها المبينة للقرآن الكريم والمتممة لتشريعاته، كما أمر الله تعالى بذلك بقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، ولا يتأتى لإنسان مَّا إن يفهم القرآن أو السنة من غير أن يقرأ ويتعلم ويبحث ويتساءل ليُغذِّيَ عقله بما يجعله صالحاً نافعاً حتى يؤدي وظيفته، والعقل نوعان: وهبي ومكتسب، فالوهبي يميز الخير من الشر والحسن من القبيح، والمكتسب هو الذي يتغذى من عقول الآخرين، فتتكون له معارف يستضيء بها في حياته، ويشرف بها في مجتمعه، وكما يروى من جواهر سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه قوله:
رأيتُ العقل عقلين * فمطبوع ومسموعُ
ولا ينفع مطبوع * إذا لم يك مسموعُ
كما لا تنفع الشمس* وضوء العين ممنوعُ
نعم لا ينفع المطبوع إذا لم يتغذّ من عقول الآخرين، فعلى العاقل أن لا يهمل هذا الغذاء بالقراءة والاستفادة ما عاش حيا.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.