«نصيب الأموات»
كعادتها في المواسم والأعياد، وفي كل يوم من رمضان، ومع اقتراب مدفع الإفطار، تُعد وجبة كاملة من أفضل ما صنعت في ذلك اليوم، وتغلفها جيداً، وتنتظر قدوم ذاك الصبي الذي كان وقتها دون الـ10، ليحملها له ولأبيه الذي يعاني إعاقة كبيرة في قدميه تمنعه من العمل، ويعيش وحيداً مع ابنه بعد رحيل زوجته، وكنت أنا أقل من ذلك، ربما بعامين أو ثلاث.
كنت أسألها في البداية لمن هذا الطعام؟ فتخبرني دون شرح أنه «نصيب الأموات»! فيما عقلي الصغير لا يستوعب كيف أنه «نصيب الأموات»، بينما يأخذه الصبي، ويأكله مع أبيه كل يوم.
حتى تجرأت وسألتها: كيف يستقيم ذلك؟ فجلست وتركت كل ما بيديها، وقالت: نعم يأكله هو وأبوه، لكن ثوابه يذهب لأمواتنا، وأخذت تعدد قائمة طويلة تضم أباها وأخوتها وجدي وكل من كانت تحبهم ورحلوا وتركوها تعد العدة كل يوم للرحيل.
وعلى مدار سنوات طوال كان الأموات أبطال قصصها التي لا تنتهي مع فعل الخير لكل حي حولها، هكذا كانت جدتي لأمي، رحمة الله عليها، تعرف الله بقلبها، وتراه في الخير والصدق والحق.
كانت تقص على مدار يومها كل ما سمعته من عمها لأبيها الشيخ منصور، ذلك الأزهري الحائز درجة «العالمية» التي تعادل في وقتنا الحالي درجة «الدكتوراه»، وكيف يطيب لها في كل وقت بدء كلامها بعبارة «حدثنا أبويا الشيخ منصور».
فهمت بعدها كيف أصّل ذلك الرجل الفاضل، بلا قصد، إسلاماً وسطياً في كل أبناء العائلة، وحببهم بفعل الخير ومد يد العون، وأهمها اقتسام طعامهم مهما كان بسيطاً مع كل معوز ومحتاج ومتعفف عن السؤال.
كبرت وخبرت الحياة، وأنا أسترجع كلماتها ومواقفها مع إطعام الطعام وحكاياتها الجميلة عن كيف أنه باب من أبواب رفع البلاء وزيادة الأرزاق.
ومرت أعوام وأعوام وأنا أبني كل مواقف الحياة وتقلباتها على أساسها البسيط والعميق «كلنا راحلون، ولا دائم غير وجه الله».
رمضان شهر العطاء والمبادرات التي تحتاج تكاتفنا جميعاً، ومد يد الخير لمن حولنا، وفرصة تأتي مرة في العام، لنرقق قلوبنا ونطهرها من الأنانية وحب التملك، ولا تنسوا جميعاً «نصيب الأموات»، وكل عام وأنتم ومن تحبون بألف خير.
@amalalmenshawi