التحريش بينهم
أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام، أن «الشيطان قد أيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»، يعني لم ييأس هذا العدوُّ المبين من أن يوقع بين الناس الفتن والشحناء والبغضاء بسبب التحريش بينهم، أي بإغرائهم بالفتن وتحريضهم عليها، حتى يتقاتلوا ويتدابروا ويتقاطعوا ويتباغضوا، ويبغي بعضهم على بعض، وتلك هي الحالقة التي تحلق الدين كما أخبر عليه الصلاة والسلام، لأن من وراء ذلك انتهاك لحرمات كثيرة.
إن هذا التحريش هو من إغواء الشيطان الرجيم، لكن شياطين الإنس أكثر تحريشاً وإفساداً في الأرض بوسائلهم المتعددة التي لعل الشيطان لم يكن قد اطلع عليها ولم يستخدمها، فغاية تحريش الشيطان أن يحرّش بين المتباعدين في الغالب، وقد يحقق بُغيته تارة ويخيب أخرى، إذا أدرك العاقل أن ذلك من إغواء الشيطان، فيستعيذ بالله منه فيعيذه ربه سبحانه وتعالى فيسلم من تحريشه وإغوائه، لكن شياطين الإنس يحرشون بين الأقارب أكثر من الأباعد، ويصورون الأقارب أباعد، ويستخدمون أساليب المكر وتصوير النصح وإظهار المحبة، حتى تقع فريستهم في الفخِّ الذي خططوه، فتقر أعينهم بذلك، ثم يتخلّون عنها، ولعل أحداً منهم يستعير كلمة الشيطان الرجيم: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
إن هذا التحريش والتحريض الذي يكون من الإنس هو الداء العُضال الذي أرهق الأفراد والمجتمعات، فيجب أن يكون له وازع نظامي ومجتمعي وأخلاقي إن لم ينفع الوازع الإيماني، لأنه لا تُمنع النفوس غير السوية إلا بزواجر تحول بين أولئك الذين يبتغون للناس العَنت، ولا يرضيهم استقرار نفس ولا مجتمع، لا لشيء إلا لما يحملونه من طوايا سيئة جُبلوا عليها، فيبُثُّونها في الآخرين ليتسلَّوا بتلك الخصومات، ولا يدرون أن الله تعالى مطلع عليهم ولابد أن يجازيهم بسوء أعمالهم شر الجزاء.
إن المتأمل للعلاقات الأسرية والعائلية وما يراه في أروقة المحاكم وغيرها من بلاء، لا يشك أن كل ذلك من فعل هذا التحريش الذي يقترفه المحرِّشون، فإنهم ابتغوا لِلبُرءاء العَنت، فحقهم أن يجازوا بسوء الجزاء.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.