في مديح الصّحبة

حين دعيت لتقديم جلسة «نجيب محفوظ وشلة الحرافيش» في معرض أبوظبي الدولي للكتاب قبل أسبوع، أردتُها فرصةً للإضاءة على الثالوث الذي ارتبط بسيرة صاحب نوبل، أعني: الصداقة والمقاهي والكتابة، كما أردتها لفتةَ امتنان مني أنا التي عرفت القاهرة من خلال رواياته والأفلام المقتبسة عنها قبل أن أعرفها طالبة دراسات عليا في ما بعد. وأردت أيضاً أن أخرج عن النسق المعتاد في المعارض، خاصة أن نجيب محفوظ هو الشخصية المحورية في معرض هذا العام، وقد أُعِدَّ عنه برنامج حافل. فراودتني فكرة أن أنجز عنه فيلماً وثائقياً بعنوان «في صحبة نجيب» أزور فيه المقاهي التي كان يرتادها وألتقي بمن ارتبط معهم بصحبة طويلة، وكأن «شلة الحرافيش» لم تنقطع منذ أن اجتمعت في أربعينات القرن الماضي إلى وقتنا الحالي بعد وفاته سنة 2006.

كتبتُ سيناريو الفيلم الوثائقي، وأنتجته السيدة أسماء صدّيق المطوّع، ونفّذتُه في القاهرة بالتعاون مع شركة تيم وان، وعُرض في الجلسة، لكنّ الأمر لم ينتهِ معي هنا، فما أثارته فيّ شهادات أصدقاء نجيب محفوظ ترك أثراً كبيراً أعاد ترتيب أولوياتي، ما سر هذا المفهوم المقدس عند نجيب محفوظ الذي اسمه «الصداقة» أو «الصحبة»، إلى الحد الذي بهر أصدقاءه أنفسهم فألفوا عن ذلك كتباً وكتبوا مقالات، لخّص مضمونها الدكتور زكي سالم في كتابه «نجيب محفوظ.. صداقة ممتدة» قائلاً: «في حدود تجربتي الإنسانية، لم أعرف طوال حياتي، صديقاً مثل نجيب محفوظ، فهو صديق جميل جداً، تعرف معه معنى المثل الشائع: الرفيق قبل الطريق». لذلك نرى من أصدقائه الذين امتدت صحبته لبعضهم أكثر من 70 عاماً، من يقتطع فترة زمنية طالت أو قصرت ليكتب عنها، فكما نجد محمود الشنواني يؤلف كتاباً بعنوان «ثلاثون عاماً في صحبة نجيب محفوظ» نجد أيضاً إبراهيم عبدالعزيز يكتب بدوره كتاباً بعنوان «ليالي نجيب محفوظ في شبرد» عن 122 ليلة صاحبه فيها.

أتقن نجيب محفوظ الفصل بين الضرتين الصداقة والكتابة حين قال مرة «لم يعطلني الأصدقاء أبداً عن الكتابة»، ولكن الكتابة لم تعطله أيضاً عن الصداقة، وكم كان دقيقاً تشخيص صديقه أستاذ الطب النفسي يحيى الرخاوي الذي ألف عنه كتاباً من ثلاثة أجزاء بعنوان «في شرف صحبة نجيب محفوظ» حين وصف حالته الصحية بعد حادثة محاولة الاغتيال، فقال إنه «يعانى من (فقر ناس) وأن علاجه في السماح له بجرعة من محبّيه وأصدقائه يومياً».

عُرض الفيلم وانتهت الجلسة وبقي في قلبي قول نجيب محفوظ: «الصداقة أقوى مما تظن، حتى الموت يعجز عن محقها».

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة