«تشكل آسي»

د. بروين حبيب

مازلت أُعجَب وأَعجَب لمن يجدون لكل مقام مقالاً، يحفرون أرض السّنَع الخصبة فتُنبت لهم أقوالاً وأفعالاً. وأعتقد أن لغة الإعلام البيضاء التي تمكّنتْ من لساني لربع قرن من الحضور التلفزيوني أفسدت عليَّ سنَعي فلا ردود البحرين أتقنتُها ولا مجاملات الإمارات تعلمْتُها فصدق فيَّ المثل العراقي: «لا حَظَتْ برْجَيْلها ولا خَذَتْ سيِّدْ علي». ووجدتُ في كلمة «تسلم» وتصريفاتها مع كل الضمائر جواباً لكل مجاملة، وأحياناً أريحها قليلاً لتأخذ مكانها كلمة شكراً. حتى فكرتُ في أخذ دورة من نوع «تعلم فنَّ السّنَع في ثلاثة أيام» أو أَحفظ عن ظهر قلب كتاب إبراهيم السّند «السنع: الأقوال المتداولة في المناسبات الاجتماعية».

شكوتُ إعاقتي المجاملاتيّة إلى صديقة جزائرية فضحكت وقالت: احمدي الله فوضعك أفضل منا، هل تدرين أننا نستعمل كلمة «صَحَّة» عشرات الاستعمالات؟ فتقال للشكر وبعد الانتهاء من الأكل وبعد استحمام مريح بل وعند التّذكُّرِ وعند الوعيد، الفرق فقط في تنغيمها وطريقة نطقها. فقلت لها فعلاً من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته.

وإذا كان اللبنانيون والسوريون لا يقلّون عن أهل الخليج في لياقاتهم اللفظية إلى حدّ أنّهم جعلوا حتى للمرأة النُّفَساء عبارةً تناسبها فيقولون لها «تكملي أربعينك بخير» إلا أنني لا أستهضم كثيراً عبارة «تقبرني» والتي يقصد بها أن تقول لشخص تحبّه: أتمنى أن تدفنني حتى لا يحدث العكس وأحزن عليك، ولا أدري كيف استساغ الذوق اللبناني الرفيع أن يُذكر القبر والموت في مجال التحبّب، ثم أليس في الأمر أيضاً أنانيةً تعني لا أريد أن أحزن عليك لذلك أتمنى أن تحزن أنت عليّ حين تدفنني، وهذه العبارة أخت العبارة السورية «تشكل آسي» أي تضع نبتة الآس على قبري. لذلك غدت المجاملات اللفظية فناً له أربابه فما يكون دعاءً لشخص في بلد يغدو دعاءً عليه في بلد آخر، وأشهر مثال على ذلك ما نتداوله في المشرق من قولنا «يعطيك العافية»، يصبح دعاء غير مقبول في المغرب؛ فالعافية عندهم هي النار. ولعل العولمة التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي قرّبتْ بين الناس وأشاعت على ألسنتهم في التهاني والمعايدات جملاً لم يكونوا يستعملونها مثل «عساكم من عوّاده» الخليجية التي انتشرت في مغارب الأرض بعد مشارقها. فهل تسعفني يوماً بديهتي السَّنَعية إن قيل لي: «قاصرك شي؟»، فأجيب بثقة عجائزنا: «ترى احنا بالشّوفة وما يردّك إلّا لسانك».

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر