حكاية الصبي والراية
منذ أن وقف الصبي ذو الـ11 عاماً مرافقاً أباه تحت الراية الخفاقة، وعيناه تنظران بدهشة ممزوجة بالفرح إلى الشيوخ المؤسسين وهم يوقّعون وثيقة الاتحاد، منذ ذلك الزمن الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن والمنظر بتفاصيله محفور في قلب الصبي الذي كان يشاهد الأحداث فأصبح مشاركاً فيها. وحين التفتَ وراءه بعد هذه السنين الطوال رأى مسيرة حافلة بالتحديات عامرة بالإنجازات، فأمسك القلم ليعتقل ذكريات هاربة.
عاد الدكتور حنيف حسن قاسم في كتابه «تحت راية الاتحاد» إلى ما قبل تلك اللحظة التاريخية في قصر الضيافة على شاطئ جميرا، فكتب بلغة شاعر وقلب عاشق ذكرياته عن مدينته دبي التي كانت تحيط بها أخطار الداخل من تدني التعليم وانقطاع سبل التواصل، وأطماع الخارج، خصوصاً بعد أن أنعم الله على البلد بثروة النفط، ولكن قيادتها الرشيدة وشيوخها الحكماء نقلوها باستشرافهم وعزيمة التطور عندهم من حال إلى حال في زمن قياسي.
يرسم الكِتابُ دائرتين إحداهما محتواة في الأخرى، أولاهما دائرة الذكريات الخاصة بحديث تسكنه النوستالجيا عن والد المؤلف الغائب بحكم عمله، الحاضر فيها بعد بمصاحبة ابنه في الحضر والسفر، وعن والدة حملت أعباء أسرة بحزم وتدبير تركا في نفوس الأبناء أطيب الأثر، ثم تتسع الدائرة قليلاً لتشمل أصدقاء الوالد في صورةٍ من بِر المؤلف بأبيه عبر تدوين سيرة أصحابه، وهذا البِر شمل أساتذة الدكتور حنيف، من مدرسة الأحمدية تلميذاً إلى جامعة أم القرى دكتوراً. كما شمل تأريخاً مفعماً بالحنين لتحولات دبي القديمة وخورها.
وكبرى الدائرتين دائرة الهموم العامة سواء في دبي على عهد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التي وصفها بأنها «أرض المعجزات التي لا تعرف المستحيل»، أو في دولة الاتحاد يوم تسنّم فيها سدّة المسؤولية. وقد أتيح للدكتور حنيف أن يتدرج في المسؤوليات من أستاذ جامعي إلى وزير للتعليم ثم للصحة مروراً بتأسيس جامعة الشيخ زايد ورئاستها لثماني سنوات، وصفها بأنها «أكثر الفترات إمتاعاً لأنها فترة حافلة بالإنجازات»، وقد فصّلها في كتابه، فعرفنا منه أن الرؤية الصحيحة والتخطيط السليم والعمل الدؤوب لابد أن تكون نتيجتها ما تشهده الإمارات من تميز.
«تحت راية الاتحاد» تسجيل لمرحلة تأسيسية لدولة الإمارات بعيون أحد الذين شاركوا في بناء نهضة هذا البلد، والكتاب أيضاً دعوة لكل من شهدوا هذه المرحلة أن يكتبوا شهاداتهم ويسجلوا مذكراتهم.. ألم يقل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إن «التاريخ يندثر ما لم يتم تدوينه»؟!
DrParweenHabib1@