العبودية الاختيارية

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

من أشرف المقامات الإيمانية العبوديةُ لله تعالى؛ لأنه الخالق الرازق المحيي المميت، بيده الخير كلُّه، فلا يستحق أن يُعبد أحدٌ سواه، فإذا اختار العبد أن يكون عبداً لله تعالى فإن الله تعالى يقبله ويحبه ويكرمه ويخلع عليه صفة العبودية له سبحانه، وعندئذٍ لا تسأل عما يناله من الإكرام في الدنيا والآخرة إن هو تحقق بمعناها، فتقرب إليه بما يحب من أداء الفرائض، وتبتَّل بما استطاع من النوافل، فإن الله تعالى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأله ليعطينَّه، ولئن استعاذه ليعيذنَّه، كما صح في الحديث القدسي. والمعنى أن معية الله تعالى تكون مصاحبةً له في جميع أحواله.

ولعظيم منزلة العبودية الاختيارية عند الله تعالى؛ فإنه لم يخلعها على وجه التحديد إلا على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وخلعها على نبيه المصطفى في أشرف مقام الإكرام والتجلي، وهو مقام الإسراء والمعراج، فقال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، ذلك لأن الأنبياء عرفوا ما تعنيه العبودية لله تعالى، وما تقتضيه من أداء واجبات العبودية، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والمسارعة إلى مرضاته، فأزلَفهم بما يقتضيه كرم المعبود لعابديه من مقامات عالية في الدنيا بالاصطفاء، وفي الآخرة بما شاء من رُقِيِّ الدرجات وإعطاء الشفاعات.

وهذه العبودية الاختيارية هي المطلوبة من الجن والإنس، بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، فمن عرف معبوده بالإيمان به رباً، وبنبيه سيدنا محمد صلى آله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً، وآمن بما جاءت به رسله من تشريعات وإخبار بالغيبيات دخل في خطاب التكريم: ﴿يا عبادي﴾، فيثاب على ما قدم من طاعة، وإن قصَّر فلعل الله تعالى أن يتداركه برحمته، لما في قلبه من الإيمان.

هذه العبودية الاختيارية هي التي يطلبها ربنا سبحانه من عباده، أما العبودية الفطرية التي فطر الله عليها السماوات والأرض ومن فيهن؛ فهي عبودية اضطرارية لا يترتب عليها ثواب، ولا عقاب، غير أن الثَّقلين الإنس والجن الذين كلفهم الله تعالى بالعبودية الاختيارية إن لم يختاروها طوعاً نالهم عقابه في دار الجزاء قهراً؛ لأنهم لم يعرفوا له حقه، مع ما أعطاهم من عقل يميزون به الحق من الباطل، وأرسل إليهم رُسُلَه يدلُّونهم عليه، فقد أعذرهم وأنذرهم، وعندئذ يحشرهم يوم القيامة مع الهالكين: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي


لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر