عن السقوف العالية والإبداع

أتذكّر منزلنا القديم في الريف: الحجرات الواسعة والسقف العالي والفِناء الداخلي الفسيح. كنا نجري في الحقول المجاورة ونلاحق الفراشات، ونصنع ألعابنا بأنفسنا، ونُقْبِل على الدرس والتحصيل، وممارسة هوايات إبداعية كالرسم وكتابة الشعر.

والدراسات النفسية الحديثة تشير إلى أنه في عالم الطفولة تلعب الفضاءات الواسعة والسقوف العالية دوراً حاسماً في تنمية العقول الصغيرة، وتؤثّر في مسار نموها المعرفي وقدرتها على التخيّل والإبداع. عندما يكون الأطفال محاطين ببيئات مثل هذه، يتم تشجيع عقولهم على التعلم، واستكشاف أفكار جديدة، وتخيّل عوالم خارج الواقع الملموس. استنتجت دراسة حديثة أن ارتفاع السقف البالغ ثلاثة أمتار أو أكثر، يخلق شعوراً بالحرية، ما يساعد الأطفال على أداء الأنشطة الإبداعية.

وعلاوة على ذلك، يبرز البناء المعماري الفخم للأماكن، مثل المكتبات والمتاحف، هذه الفكرة. المكتبات برفوفها الشاهقة وسقوفها المرتفعة، تجذب القراء الصغار للانطلاق في مغامرات فكرية، من خلال قراءة الأعمال الأدبية. المتاحف - بأسقفها الشاهقة التي تعرض المعروضات الضخمة والآثار القديمة - تُلهم الدهشة وتشجع على التفكير العميق.

وفي الأدب نجد موضوعات متكررة تحتفل بالفضاء الواسع، حرفياً كان أو استعارياً. في «ويلي وونكا ومصنع الشوكولاتة» للكاتب البريطاني روالد دال Roald Dahl، نرى السقوف المرتفعة ترمز إلى الإمكانات غير المحدودة. وبالمثل في سلسلة «هاري بوتر» لرولينغ Rowling، تجسد القاعات الرائعة في قلعة هوجورتس بسقوفها الشامخة وهندستها المسحورة، حيث تشعل خيال السحرة والساحرات الصغار. القاعة الكبرى، بسقفها المسحور الذي يعكس السماء خارج القلعة، تثير الدهشة وتشجع على التساؤل والتأمل، وتعزز بيئة يمكن للصغار أن يحلموا ويتعلموا ويخلقوا فيها.

في أعمال الكاتبين تتجاوز الفضاءات المادية لتحث على شعور بالدهشة، والإمكانات غير المحدودة للخيال البشري. من خلال مهارتهما في السرد، يدعو دال ورولينغ القراء إلى عوالم تتلاشى فيها مفاهيم الحدود، ما يترك المجال للأحلام للانبعاث، والعقول للتوسع.

في الخلاصة، ليس الارتباط بين السقوف العالية وتوسيع الذكاء والخيال في الأطفال مجرد افتراض، بل يستند إلى ما هو معروف في الأدب والاستقصاء العلمي، على حد سواء. عندما يتفاعل الأطفال مع الأماكن التي تحتضن الارتفاع والانفتاح، لا يتم تحفيزهم عقلياً فقط، بل أيضاً تشجيعهم على الحلم باستكشاف أفق أوسع، وبالتالي سواء في صفحات القصص المحبوبة أو في عمارة البيوت و المؤسسات التعليمية، يظل تأثير البيئات الواسعة في تنمية الطفولة شاهداً على قوة الفضاء في تشكيل العقول الصغيرة.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
 

الأكثر مشاركة