كيف تَأكلُ ضيفَك؟

حين أمتلك فسحة من الوقت أعود بين فترة وأختها إلى برامج تلفزيونية قديمة يوم كان ذلك الجهاز السحري لا يعرف غير الأسود والأبيض. وقادني التجوال العشوائي على موقع «يوتيوب» إلى لقاء تلفزيوني نادر بين الإعلامية أماني ناشد والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، وبقيت مشدودة لساعة وربع إلى حوار هادئ ثري وممتع، وما إن أنهيته حتى اقترح عليّ الموقع لقاء آخر مع عميد الأدب العربي طه حسين - وقد أصبحت المواقع ووسائل التواصل تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا - كانت تحاوره الإعلامية ليلى رستم بحضور مجموعة من كبار أدباء مصر مثل حامل «نوبل» نجيب محفوظ والفيلسوف الوجودي عبدالرحمن بدوي والكاتبين أنيس منصور ومحمود أمين العالم، ولم أر التعبير القديم المشهور: «كأن على رؤوسهم الطير» متجسّداً إلا عندما شاهدت الحوار. أدب كبير في الطرح رغم المواضيع الشائكة مثل العامية والفصحى والالتزام.

هذان المثالان كانا يتوافقان مع ما انتهجته طوال مسيرتي التلفزيونية التي لامست ربع قرن، احترام الضيف عندي خط أحمر أوَليسَ اسمُه ضيفاً؟! فمن حقه علينا أن يُكرَم، ولكني الآن أنظر بكثير من الأسى إلى برامج حوارية تحولت إلى حلبة مصارعة ديوك، همُّ المقدّم فيها أن يشعل الحرائق وأمنيته أن يُخرِج من ضيفه أسوأ ما فيه، ولا بأس إن تشاتم الضيفان بأقذع الألفاظ، أما إذا وصل الأمر إلى العراك بالأيدي فتلك ليلة المنى لصاحب البرنامج كُرمى لعدّاد المشاهدات.

كيف أصبح العنف اللفظي الذي ينفلت في أحيان كثيرة إلى تقاذف بما يقع تحت اليد من أكواب وكراسيّ ظاهرة طبيعية إلى درجة أن كثيراً من القنوات أصبحت تمتنع أمام الضيوف من وضع كؤوس زجاجية أو أية أدوات يمكن أن تستعمل للتراشق؟

قبل 14 سنة كتب الباحث الكويتي محمد النغيمش في كتابه «لا تقاطعني» أن 70% من المشاركين في البرامج الحوارية التلفزيونية لا يتحلون بآداب الحوار، أما الآن فنتحسر على أيام مقاطعة الحديث أمام الصراخ والشتائم والمُحاور الذي يتحول جلاداً يدفع ضيفه باستفزاز لا يتراجع أمام أي ضوابط لترك الحلقة أو للدخول في حفلة ردح شتائمية. لا احترام لأية خصوصية بل يعتبر الفضيحة سبقاً صحافياً، وفي الأخير ينهي الحلقة مبتسماً بعد أن افترس ضيفه، وإحدى عينيه على «الرايتنغ» والأخرى على «الترند». كم أتحسر على زمن كانت تقول فيه أيقونة البرامج الحوارية أوبرا وينفري: «إذا أحسنت الاستماع إلى الناس، فسيحكون لك قصّتهم».

DrParweenHabib1@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة