من المكتب إلى الواقع الافتراضي

محمد سالم آل علي

لقد كان مفهوم العمل من المنزل، مجرد إجراء استثنائي ومؤقت، يرتبط بحالات محددة ونطاق ضيق من المهام، إلا أنه وبفضل الوباء العالمي الذي ألقى بظلاله الثقيلة ودفع الملايين إلى العمل عن بُعد تلافياً للاتصال المباشر، أصبح هذا المفهوم بمثابة حجر الأساس للتوظيف الحديث، وجزءاً لا يتجزأ مما سيأتينا به المستقبل من تغييرات جذرية، تؤثر في مجتمعاتنا واقتصاداتنا وحتى في حياتنا الشخصية.

ودعوني أبدأ هنا بمساحات العمل التقليدية التي ستطالها جوانب التغيير، فبدلاً من صفوف المكاتب وقاعات المؤتمرات، ستظهر المساحات الافتراضية لتتلاشى معها الحدود، فالاجتماعات مثلاً ستُعقد في بيئات ثلاثية الأبعاد وبتقنية «الهولوغرام»، أما المهام فسيتم تنفيذها عن بُعد وعبر أجهزة الحواسيب، وإذا ما أضفنا إلى ذلك دور الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في القيام بالمهام الروتينية وأتمتتها، فإننا سنستنتج بأنه لا داعي بعد الآن للدوام التقليدي، لأن التركيز سيكون بشكل أكبر على النتائج، وبشكل أقل على الإدارة، أي ستُقاس الإنتاجية من خلال مخرجات الأداء، وليس عدد ساعات الحضور، وسيتمتع الموظفون بالحرية في منازلهم أو في أي مكان من العالم، حيث يشعرون بصفاء الذهن وبذروة الإنتاجية. وأضيف هنا بأن هذا التحول، وإن كان سيحرر الموظفين وسيدفعهم نحو المزيد من الإبداع والابتكار، إلا أنه سوف يتطلب منهم، تعزيز مهاراتهم من أجل التكيّف مع الأدوات الجديدة، وهذا له من الإيجابيات الكثير.

بالطبع، ما ذكرته أعلاه لا ينطبق على جميع الوظائف والمهن، خصوصاً تلك التي تتطلب الحضور الجسدي، كالعاملين في مجال الرعاية الصحية وبائعي التجزئة، وموظفي الخدمات وغيرهم الكثير ممن تعتمد أدوارهم على الوجود في مواقع محددة، لذا ستكون بيئات العمل الهجينة هي الحل هنا، حيث توفر المرونة مع الحفاظ على الحضور الضروري في الموقع. فعلى سبيل المثال، قد يكون لدى الأطباء خيار إجراء استشارات افتراضية للحالات غير الحرجة، ما يقلل من الحاجة إلى زيارة المرضى للعيادات لكل موعد، كما قد يتمتع الموظفون من أصحاب المهن الأخرى بالمرونة في اختيار مكان ووقت العمل، ولعل الكرة هنا في ملعب الشركات التي تحتاج إلى تصميم سياسات مرنة تلبي الحاجات الفردية مع الحفاظ على الثقافة التنظيمية القوية والمتماسكة.

لاشك أن مستقبل العمل عن بُعد يحمل معه العديد من الفوائد والإيجابيات، بدءاً من التأثير الإيجابي في البيئة وصولاً إلى تقليل الازدحام المروري وتخفيف الضغط عن المدن، والأهم أنه يوفر فرصة لإعادة تصميم الطريقة التي نتعامل بها مع حياتنا المهنية، مع التركيز على المرونة والاستقلالية والاستدامة، فمكتب الغد لا من الخشب ولا من المعدن، بل هو مفهوم متطور ينسجم مع عالمنا المتغير باستمرار.

مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر