سعة النفوس
كلما اتسعت النفوس زاد عطاؤها وكثر خيرها، وكلما زاد العطاء أعقب ذلك بسطة في الرزق وسعة في العيش، لأن مداواة النفوس ومعالجتها تورث معالجة البدن، فتنتج الأفعال الكريمة والأعمال الجليلة. فالنفوس الرحبة تولد بشاشة الوجه وطلاقة اليد. فإذا ضاقت النفوس أمسكت اليد وعبس الوجه، ولم تبتسم الشفتان، فسائق مركبة في الشارع يضيق قلبه عن أن يفسح مجالاً للداخل من جانب الطريق مع سعته، فإذا بخل بذلك فهو بما في يده أكثر تمسّكاً وشحاً.
وآخر في الصف أثناء الصلاة لا يوسع للذي بجانبه، مع القدرة على ذلك ولو بتحمّل ضيق خفيف.
وأبخل البخل ذلك الإنسان الذي يصعب عليه تسليم البِشرِ والبشاشة، فيراه شاقاً عسراً، فمثل هذا قطعاً إذا رأيت منه ذلك انقدح في داخلك - بصورة تلقائية - أن نفسه ضيقة، وأن مثله قد لا ترتاح له النفوس، لأنه إذا عجز عن أسهل الأمور فما فوقه أشق عليه. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»، وهذا التوجيه النبوي جاء لبيان ما للباطن من تأثير في ظاهر الإنسان، فالأول يؤثر في الثاني بشكل مباشر وقوي. وفي الحديث: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد».
فمن يطالع سير الماضين والحاضرين معجباً أو متعجباً من كرمهم وشجاعتهم ويبحث عن مشابهتهم في تلك الأخلاق الفاضلة النبيلة، فليحرص أولاً على تزكية نفسه وتصفية جنانه من كدر الرديء من الأوصاف والخلال، لينال المراتب العالية ويحوز الدرجات الرفيعة.
فمنعٌ مع بشاشةٍ خيرٌ من منح مع فظاظة، ورفض مع اعتذار أفضل من إعطاء مع مَنٍّ وانقباض، لذلك منعت الشريعة ذلك، فقال الله تعالى في المُنفِقين: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم)، وقال: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)، لأن قول المعروف فيه أجر، والصدقة المتبوعة بالمنّ لا أجر فيها.
وانظروا إلى سخاء ابنتي الصديق أسماء وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، فكان كرم أسماء إذا وصلها شيء مما ينفع التصدّق به تبادر بالتصدّق به مباشرة ولا تُبقيه عندها. وأما أختها فكانت تجمع الشيء القليل مع القليل حتى يصير كثيراً ثم تتصدّق به، ولكل وجهة هو مولّيها.
وقد قالوا: ومن شابه أباه فما ظلم.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه