دعوى قضائية ضد بني البشر

د. كمال عبدالملك

أحد أقاربي المقيمين في كندا زار إحدى الدول برفقة ابنته، وهي طالبة جامعية نبيهة نشأت في بيئة كندية تُعلي من شأن حقوق الإنسان والحيوان وكل الكائنات الحية. وبينما كانت تتجوّل في أحد الشوارع، رأت سائق عربة تجرها دابة وهو يضربها بقسوة مفرطة، فتوقفت وسط الشارع وصاحت في السائق، معترضة على قساوته، صارخة بكل شعارات حقوق الحيوان.

وعند الرجوع إلى كندا كتبت الابنة مقالة عن حقوق الحيوان في الشرق تخيلت فيها أن الدابة الضحية لجأت إلى جمعية الرفق بالحيوان ورفعت قضية ضد السائق مطالبة بتسريحها ودفع تعويضات للأذي الجسدي والنفسي الذي وقع عليها.

ذكرتني هذه الحكاية بواحدة من الرسائل الموسوعية لإخوان الصفا (مجموعة سرية من المفكرين والعلماء الذين التقوا في مدينة البصرة خلال القرن العاشر وعملوا متعاونين على التوفيق بين الشريعة والفلسفة)، وهذه الرسالة تطرح سؤالاً جريئاً: ما الذي يمنح الإنسان الحق في السيادة على الحيوانات؟

المثير في هذه الرسالة ليس فقط الموضوع الذي تتناوله، إنما أيضاً الزمن الذي كُتبت فيه. قبل ألف عام لم تكن هناك مصانع ضخمة تُنتج اللحوم بطرق قاسية، ولم تكن الحيوانات تُستغل بتلك القسوة التي نراها اليوم، ومع ذلك انشغل فلاسفة ذلك العصر بقضية ظلم الإنسان للحيوان إلى درجة أنهم خصصوا لها دراسة مستفيضة.

في هذه الرسالة لجأ إخوان الصفا إلى أسلوب أدبي فريد، حيث استخدموا حكاية رمزية روتها الحيوانات نفسها. تُظهر القصة كيف أن هذه الكائنات المظلومة قررت رفع دعوى قضائية ضد الإنسان أمام ملك الجان الذي أدار جلسات مناظرة بين الحيوانات وممثلي بني البشر. هذا الأسلوب الرمزي كان مقصوداً، حيث رأى إخوان الصفا أنه أبلغُ في إيصال الموعظة، وأكثر تأثيراً في النفوس، إذ تتجلى من خلاله أسمى معاني التسامح والتعاطف.

وتبرز أهمية هذه الرسالة في أنها تقدم نموذجاً لأدب المناظرات الذي ازدهر في العصر العباسي، حيث كانت المناظرات الفكرية وسيلة رئيسة لمعالجة القضايا الفلسفية والاجتماعية والسياسية، كما تعكس الرسالة هموم ذلك العصر في ما يتعلق بالعدالة، والحرية، وحقوق الكائنات الحية، وهي قضايا تتجاوز مسألة ظلم الإنسان للحيوان لتشمل رسائل أعمق تتعلق بالقيم الإنسانية بشكل عام.

وآمل أن تقرأ ابنة قريبي نص المحاكمة وترجمتها الإنجليزية في طبعة جامعة أوكسفورد: The Case of the Animals versus Man Before the King of the Jinn (2010)

 باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر