ألف ليلة وليلة ودمى «الماتريوشكا»

د. كمال عبدالملك

دمى «الماتريوشكا» الروسية الآسرة هي مجموعة من الدمى الخشبية ذات الحجم المتناقص، موضوعة الواحدة داخل الأخرى. التأمل في الطبقات المتداخلة للسرد في ألف ليلة وليلة، يشبه التحديق في بنية هذه الدمى، كل منها يتسم بتصميم متكرر ومتداخل كما تحوي ألف ليلة وليلة حكايات تتداخل في بعضها بعضاً، لتغوص أحياناً في أعماق متجددة من الحكي المشوّق.

في هذه المجموعة السردية العظيمة، تتداخل القصص كما تتداخل طبقات الزمن، فشهرزاد، تلك الحكاءة الماهرة، تنسج خيوط رواياتها للملك شهريار، وتدخل في نسيجها شخصيات تصبح بدورها رواةً لأحداث جديدة. هذا التشابه بين الحكايات والدمى يكشف عن علاقة جوهرية، تشي بإمكانات لا تنتهي لتوسع السرد واكتشاف آفاق جديدة من الخيال. فكما تفتح دمية لتجد بداخلها أخرى، يغوص القارئ في قصة ليُسحب إلى أخرى، ثم أخرى، في رحلة لا تنتهي من الاستكشاف والإبداع السردي.

ويأخذ هذا التشبيه أبعاداً جديدة في عالمنا الحديث عبر الرموز التعبيرية، تلك الرموز البسيطة التي تختزل معاني شاسعة ومعقدة. يمكن القول إن الرموز التعبيرية تمثل نظيراً بلاغياً للأدوات السردية في ألف ليلة وليلة، فكما أن الحكايات بلا مؤلف واحد، ومفتوحة النهايات، تُظهر الرموز التعبيرية معاني تتشكل وفق تفسيرات المستخدمين والسياق المحيط. قد يعبر الرمز التعبيري عن مشاعر متباينة بحسب السياق والنبرة، تماماً كما تحمل حكايات ألف ليلة وليلة معاني متعددة تتطور بمرور الزمن.

إذا اعتبرنا الحكايات بمثابة «دمى لغوية» أو طبقات من السرد، يمكن أن ننظر إلى الرموز التعبيرية كأجزاء حديثة من هذه الحكايات التي - رغم بساطتها - تضيف طبقات عاطفية أو رمزية إلى التواصل اليومي، تماماً كما تبني كل قصة داخل ألف ليلة وليلة على السابقة، لتخلق تأثيراً تراكمياً، يسهم كل رمز تعبيري في تعميق الرسالة أو تغيير تفسيرها. وكما أن الحكايات تتطور باستمرار، تتطور الرموز التعبيرية مع اللغة والثقافة، مضيفة إلى الإمكانات اللانهائية للتعبير الإنساني.

وهكذا، تظل ألف ليلة وليلة، بحكاياتها المتداخلة، ودمى «الماتريوشكا» البسيطة، استعارتين قويتين لفن الحكاية.. فن يتطور باستمرار ويتوسع ويجدد نفسه في أشكال جديدة، بدءاً من التقاليد الشفوية القديمة، وصولاً إلى العصر الرقمي للرموز التعبيرية. تذكرنا هذه الحكايات، مثل طبقات الدمى، بأن كل سرد - سواء كان مرئياً، شفوياً، أو مكتوباً - يحمل في طياته إمكانية الكشف عن أعماق متجددة من المعاني.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

 

تويتر