أنموذج التسامح
التسامحُ في الإسلام ليس شعاراً، بل هو نهجٌ تشريعي وواقعي، لأنه السبيلُ الأمثلُ للتعايش على هذه البسيطة التي جعلها الله تعالى للأحياء مهاداً وللموتى كفاتاً، ولا يمكن أن يعيش الناس فيها إلا بتفاهم وتعاون وتسامح، وهو ما أشار إليه الذكر الحكيم في أكثر من آية، كآية الحُجُرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، وآية الرحمة المحمدية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. وقد كان عليه الهدي النبوي الذي قال الله تعالى عنه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. وسارت عليه الخلافة الراشدة، والمُلك العادل، ففتح المسلمون القلوبَ قبل البلدان، وتعايش الناس بهذا التسامح، فعاشت الديانات المختلفة بكنائسها وبِيَعها وبيوت نارها بجوار المساجد والمعاهد، وعاشت الصوامع بجوار الأربطة والخانقات، فضلاً عن الأسواق والبيوت المتداخلة والمتجاورة.
هكذا كان نهج الإسلام والمسلمين، وبذلك حصل التعايش السلمي، والأمن المجتمعي.
وإذا كان هذا في الزمن المتباعد الذي كانت فيه عوامل التباعد الجغرافي والتواصل الذاتي عائقاً كبيراً بين بني الإنسان، فنحن اليوم في العالم المتواصل والمترابط أشدُّ حاجةً إلى التعارف والتآلف والتسامح، ليعيش الجميع في واحة من الأنس والبناء والتطور، وهو ما قامت عليه دولة الإمارات المباركة التي جعلت التسامح منهجاً مؤسسياً، له واقع متميز، وليس مجرد شعار أو أُمنية، فأنتج حضارة فائقة السرعة، وأمناً ضارباً أطنابه في جذور المجتمع، وعدالةً راسخة لا يطمع معها القوي في ظلم الضعيف، ولا ييأس الضعيف أن يأخذ حقه من القوي.
إن هذا هو التسامح الذي نشَده الإسلام، وأقام عليه حضارة العلوم والمعارف المختلفة، وجعله يضرب في الأرض من غير إقصاء ولا نفور، حتى أصبح العالم الإسلامي مصدر فخر للإنسانية في جميع معارفها، وإن انتُحلت ابتكاراتُه في العصور المتأخرة؛ فإن المنصفين لم يغمطوا عالمنا الإسلامي حقه في الأولوية الابتكارية، فما أجدرنا اليوم لأن نعيد هذا المنهج الرباني للإنسانية حتى تعرف لنا الفضلَ وتنصفنا ممن يتهم حضارتنا ومعارفنا، فإنه لا يمكن رد ذلك بالبيِّنات القولية، بل بالواقع العملي الذي ننهجه في بلادنا، ونعطي به صورةً مُثلى لواقعنا المضيء؛ منهجية إسلامية نظامية، وتعاوناً مثمراً بين بني الإنسان، ودعواتٍ ملحَّة لإحياء هذا التسامح في قلوب العالمين، لاسيما مع عهد وثيقة الإخاء الإنساني التي دُوِّنت ووقعت في بلد الإنسانية والقيادة الإنسانية، وأصبحت ملزِمَةً دولياً كونها إحدى وثائق الأمم المتحدة التي جعلت اليوم الـ16 من نوفمبر يوماً عالمياً للتسامح.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه