وداعاً للأدب..

في زمننا الحالي، يبدو أن الأدب أصبح من الآثار التي تُعرض في المتاحف بجانب الفُخار القديم وأدوات الزراعة التقليدية، ربما نحتاج قريباً إلى دورات تدريبية لتعلم كيفية قول «شكراً» أو «عذراً»، إذ لم يعد أحد يراها ذات أهمية، بل أكثر من ذلك، أصبح الشخص المؤدب كأنه من الكائنات المنقرضة، يعيش بيننا لكنه لا ينتمي لهذا العصر.

تصور معي مشهداً يومياً: تدخل إلى المصعد وتلقي التحية، فينظر إليك الآخرون كأنك قد ارتكبت جريمة، من الواضح أن قواعد الأدب هذه لم تعُد تنطبق في زمن السرعة والتكنولوجيا الفائقة، أصبح الأهم الآن أن تصل بسرعة وتترك خلفك كل ما يتعلق بالتعامل الراقي.

لا تتوقف الأمور هنا، انظر إلى محادثات اليوم، سواء كانت في الشارع أو في الاجتماعات أو حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، الشخص الذي يلتزم الأدب واللباقة غالباً ما يُنظر إليه بعين الشك، وكأنه يعيش في عالم مُوازٍ، أما صاحب التعليقات الفظة والصريحة، فيُعدّ الآن «صاحب الشخصية القوية»، فهو يعرف كيف «يقولها كما هي»، وكأن التهذيب أصبح مرادفاً للضعف أو التردد.

بل الأدهى من ذلك أن بعض الناس اليوم يشعرون بالفخر عند تجاهلهم أبسط قواعد الأدب، ويكاد أحدهم يقول لك: «أنا شخص صريح، لا أحتاج للأقنعة»، بينما يقصُد في الحقيقة أنه لا يكترث بمشاعر الآخرين، ولا يهتم بأن يكون لبقاً، وبالطبع من يلتزم الأدب لا يحصل إلا على لقب «اللطيف» الذي بات يُقال بنبرة سخرية، وكأن اللطف عيب!

أما في التعاملات اليومية، فقد أصبح من الطبيعي أن ترى الناس يدفعون بعضهم بعضاً للوصول إلى مُقدمة الصف، أو يتجاهلون الطابور تماماً، وهنا نجد المؤدب المسكين واقفاً في آخر الصف، ينتظر دوره بكل أدب، بينما يتم تجاوزه مراراً وتكراراً، وكأنه شبح لا يراه أحد.

لكن لا تفهمني خطأ، فأنا لا أتحسر على الماضي! الماضي كان جميلاً بأوقاته، واليوم أيضاً له جماله... جمالٌ وقح ربما! إنه زمن التطور والتكنولوجيا والوقاحة المتقدمة.. فمن يحتاج للأدب عندما يمكننا إرسال رسالة نصية مملوءة بالرموز التعبيرية لتفسير كل مشاعرنا؟!

في النهاية، ربما يكون الوداع للأدب أمراً لا مفر منه، لكن على الأقل دعونا نبتسم بينما نودعه، فالابتسامة مازالت مجانية.. حتى إشعارٍ آخر.

*محامٍ وكاتب إعلامي

x.com/dryalsharif

www.ysalc.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

الأكثر مشاركة