%50 تكفي
قوية وصلبة وباهرة بتلك الشخصية التي صقلتها معتمدة على نفسها، رغم ثراء عائلتها، التقيتها في إحدى الحفلات التطوعية التي اعتاد الشباب تنظيمها لدعم الأعمال الخيرية بالقاهرة في أواخر التسعينات.
توطدت علاقتنا كثيراً، وبات لقاؤنا الأسبوعي مميّزاً وحافلاً، كانت من ذاك النوع الذي يضيء من حوله، لكثرة ما تحمله من سلام نفسي نادر، وتصالح عجيب مع كل شيء مهما كانت أحزانها.
كانت ترقبني وأنا أحكي وأحكي، وتستمع باهتمام بالغ، وفي كل مرة لا تقدم نصيحة أو تقدم حلاً، إنما تأخذني إلى منطقة أخرى تتحدث فيها عن كيف يكون المرء قوياً بما يكفي في مواجهة حماقات العالم وتقلبات الأيام، وفي يوم عاصف ومفصلي في حياتي صمتت كعادتها حتى انتهيت ثم باغتتني بسؤال غريب وقتها: كم تستغرق من يومك هذه المشاعر وهؤلاء الأشخاص؟ أجبت: لا أفهم.
قالت بحسم من يجيد لغة الأرقام بحكم عملها في إحدى الشركات متعددة الجنسيات في مصر وقتها: يعني كم نسبتهم أو حصتهم في يومك؟ قلت: تقريباً 100%.
قالت: لا، خطأ فادح، النصف كافٍ وزيادة، امنحي كل الأشياء والأشخاص والعالم بكل تفاهاته 50% فقط من اهتمامك ومشاعرك ووقتك، واحتفظي بالنصف المتبقي لأجلك، لأجل نفسك ولتطوير ذاتك والاستعداد للمستقبل وللرحيل يوماً ما عن هذه الدنيا.
واستطردت: نأتي وحدنا وسنمضي وحدنا كذلك، وبين هاتين اللحظتين رحلة بها الكثير من الأحزان والعثرات والوحدة، وعلينا أن نتعلم تخطي ذلك بأقل الخسائر.
تغيّرت كثيراً بعدها، وتعلمت أن الاستغراق بكامل الجهد والوقت والمشاعر في أي علاقة أياً كان نوعها خطأ فادح يكلفنا الكثير من السلام والراحة النفسية، ويحرمنا فرصاً عظيمة يحملها التغيير، سواء على المستوى الشخصي أو العملي، وأدركت مبكراً أن سياسة الـ50% هذه تمنحنا براحاً وحرية، وتُملكنا قرارنا وحقنا في الاختيار أو الرفض.
أحياناً كثيرة نهب حياتنا ووقتنا لمن حولنا ثم نكتشف لاحقاً خطأ هذه الفكرة ونتمنى لو احتفظنا ببعض منا ومن وقتنا لأنفسنا، نتعلم فيها مزيداً من خبرات الحياة ونستمتع بها ونستريح من صخبها وضجيجها، ونركز على علاقتنا الخاصة بخالقنا، ونستعد بصدق لعظيم لقائه.
تاهت صديقتي في زحام الحياة، وسافر كل منا، وانقطع التواصل بيننا، لكنها لاتزال حاضرة في كل موقف، أستحضر فيه نصيحتها الذهبية فيهون الصعب، بقيت كمصباح منير في عتمة الروح، بقيت ببساطة كلمتها: «50% تكفي».
amalalmenshawi@
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه