قد أظلّكم شهر مبارك

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «أظلّكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليكتب أجرَه ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يعدّ فيه القوة من النفقة للعبادة، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فغنم يغنمه المؤمن».

هذا الحديث الذي يعدّ أصلاً في التهنئة بشهر رمضان المبارك، حيث بشّر فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بقدومه، ليستقبلوه بالاستعداد النفسي بنية صالحة، وعزيمة أكيدة، على أنهم سيصومونه ابتغاء وجه الله، فينال المسلم أجر صيام الشهر حتى لو لم يُتِمّه لمرض أو موت.

هذا هو الاستعداد الحقيقي الذي ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، لا أن يكون استعداداً مادياً بالأطعمة والأشربة، وغير ذلك من وسائل الترف التي لا تتفق مع حقيقة الصوم، فإن حقيقة الصوم تبتل لله عز وجل بالعبادة والإقبال عليه بصنوف الطاعات والقربات، فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام يحلف وهو الصادق المصدوق أنه لم يأتِ على المسلمين شهر خير لهم من هذا الشهر، لما فيه من التجلِّي الإلهي على عباده بالفضل المبين بمضاعفة الحسنات، وما أعدّه لهم من الخيرات إنْ هم اغتنموا فضله بحسن الإقبال عليه فيه، ومن ذلك أنه يتولى جزاءهم بنفسه «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، ومن ذلك أن يعينهم إن توجهوا إليه - بصدق - بفتح أبواب الجنان لاستقبالهم، وتصفيد الشياطين عن إغوائهم بإفساد صومهم كله، أو كماله، وبأن منزلة الصائم عند ربه كبيرة حتى إن خَلَوف فمه - أي تغير رائحة فمه - أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، لأنه أثر عبادة لوجه الله تعالى، كأثر دم الشهيد، لونه لون الدم وريحه ريح المسك.

إن هذا الاستعداد النفسي والتهيؤ الروحي محبة لهذه العبادة التي هي تشبّه بالملائكة الكرام، هو في الحقيقة عبادة محضة لله رب العالمين، وهو سبب لعون الله تعالى لعبده على أداء هذه العبادة العظيمة التي قد تنازع فيه النفس والهوى والمغريات، فتجد عون الله تعالى يصدّ هذه النوازع ليبقى الصائم مقبلاً على الله تعالى، نهاره بالصيام، وليله بالقيام، وحواسه محجوبة عن الآثام، وبذلك تصوم الجوارح صوماً حقيقياً، وتصوم الحواس صوماً معنوياً فيكتمل الصوم الذي يحبه الله تعالى ويرضاه.

*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر
log/pix