جبنة التشيدر وأنا

د. كمال عبدالملك*

بينما كنت أتجول في متجر للأجبان، كانت روائح الأجبان المعتّقة وخبز الفرن الطازج تمتزجان في الهواء، ناولني البائع شريحة صغيرة من جبنة التشيدر cheddar.

ما إن رفعتها إلى شفتيّ حتى جعلتني الرائحة والطعم أتذكر طفولتي. لم يكن الأمر مجرد طعم أو رائحة، بل كان سحراً أعادني إلى الماضي تلميذاً صغيراً، جالساً على طاولة في مدرستي الابتدائية القديمة بقريتنا في مصر.. جدران أمامي تحمل آثار الزمن، يتخللها ضحك ووشوشات تلاميذ صغار، أرى وجوه رفاق الطفولة بوضوح مؤلم، تلمع أعينهم بمكر الطفولة، وترتفع ضحكاتهم عالياً في فناء المدرسة، والحبر الأزرق يلطخ أناملهم وهم يخطّون حروفهم على صفحات الدفاتر العتيقة. يا لها من رحلة مباغتة في دروب الذاكرة! أتعجب: كيف تأتي دون سابق إنذار وأسعد بها؟ الذاكرة التي تعيد الطعم والرائحة والملمس. وهنا، في هذه اللحظة تحديداً، ألفيتني ألتقي بمارسيل بروست مجدداً، ذاك الذي أدرك سرّ هذا التلاعب الخفي للحواس، ذاك الذي ألّف رائعته (بحثاً عن الزمن المفقود، 1905-1910) والتي أوضح فيها أن الذكرى لا تُستدعى بإرادة الإنسان، بل تُبعث إلى الحياة حين تغافلنا لحظة عابرة.

وبروست يعلمنا كيف نلتقط جوهر هذه اللحظة العابرة، كيف يمكن لفنجان من الشاي أن يحمل نكهة ماضٍ غابر، وكيف لقطعة حلوى «المادلين» أن تفتح أبواب الذكرى المغلقة.. نقرأ في روايته أنّ طعم «المادلين» مغموسة في الشاي ذكّر الصغير مارسيل بالبيت الرمادي القديم الواقع على جانب الشارع، حيث كانت حجرته تنتصب كأنها خشبة مسرح وتشرف على الحديقة.. ومع البيت تذكَّر البلدة من الصباح حتى الليل وفي جميع أحوال الطقس. وهكذا، وفي تلك اللحظة، بدت له جميع الأزهار في حديقته وفي حديقة مسيو سوان، وأوراق اللبلاب، وجميع القرويين الطيبين، وأكواخهم الصغيرة، والكنيسة، وكل ما في بلدة كومبري وما حولها، كلها بدت في حلوى «المادلين» وقدح الشاي الذي كان يحتسيه.

إن قراءة بروست ليست مجرد رحلة في الأدب، بل هي طقس روحي، دعوة إلى تأمل الذات، نداءٌ إلى الإنصات للحنين الذي يهمس في دواخلنا. فهو يحثنا عبر سردياته الرائعة على الإصغاء للزمن الذي يكتب نفسه في تفاصيل حياتنا من دون أن نشعر.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر
log/pix
مركز الأخبار