الاتزان الرقمي
لقد أصبح الواقع الافتراضي جزءاً أساسياً من واقعنا الاجتماعي، بل إن الحد الفاصل بين الواقعي والافتراضي أصبح متلاشياً. في البدايات كنا ندخل العالم الافتراضي من خلال غرف الدردشة وغيرها ونخرج، وكنا نستخدم مصطلحات لإعلان الخروج والدخول (BRB) أو «سأعود حالاً»، هذه المصطلحات اختفت اليوم ولم تعد مستخدمة، لأننا أصبحنا شبه ساكنين في هذا الواقع، وحياتنا هي حياة بين واقعين ننتقل من هنا إلى هناك بشكل سلس، وما يحدث في الافتراضي يتأثر به الواقعي، والعكس صحيح، وأصبح الافتراضي عاملاً أساسياً لصياغة قيمنا، وتوجهاتنا، وتحديد تطلعاتنا، وغير ذلك، كما أنه أصبح مصدرنا الأساسي لتلقي المعلومة والتواصل وخلق الصداقات. وكما أن هناك تلاحماً مجتمعياً في العالم الواقعي، هو كذلك في الافتراضي، فالفاصل بين الواقعين كما ذكرت تلاشى كلياً.
فضلاً عن ذلك، باتت هذه المنصات الافتراضية أيضاً سوقاً اقتصادية-سياسية، تؤثر في الحياة السياسية بعالم الواقع، وتؤجج التظاهرات، والثورات، والصدامات، والحروب، وغيرها من الأحداث والتطورات في العالم، في هذا الواقع تنظمت مجموعات الضغط، وشبكات المصالح، والنُخب، لتحاول السيطرة على هذه المساحة، وتنظمها لخدمة أهدافها، فعلى سبيل المثال، أصبحت لدينا نخب افتراضية ذات قوة وتأثير، وأُطلق عليها مصطلح «المؤثرين»، هذه النُخب أصبحت قيادات في الواقع الافتراضي، تقود النقاشات، وتحدد موضوعاتها، وتُرسي قواعد ما هو مقبول من عدمه، وفي الوقت نفسه هي التي تطلق ما يُسمى بـ«الترند»، أو «الهاشتاق»، وتتبعها بذلك مئات الألوف من القطعان المؤيدة والرافضة، وتشتد وتسخن الحوارات، وفي كثير من الأحيان تتحول إلى حروب افتراضية. كل ذلك حتماً ينعكس على حياتنا الواقعية، وعلى من يحيط بنا من أفراد، وينعكس على جودة حياتنا واستقرارها العاطفي والاجتماعي، إضافة إلى ذلك، أصبح هذا الواقع سوقاً تجارية تحدد توجهاتنا وعاداتنا الاستهلاكية، وذائقتنا في الوقت نفسه. ومع تقنيات الذكاء الاصطناعي، سيكون الواقع الافتراضي أكثر ذكاء وديناميكية واستجابة لحاجة المستخدم. إن لقاء الذكاء الاصطناعي بالواقع الافتراضي سيُغير إدراكنا للواقع، بل سيعيد تشكيله وتشكيل علاقتنا به بشكل جذري. إذن تؤدي التقنية دوراً حيوياً في حياتنا، وكل هذه التحولات في واقعنا هي تحولات حتمية وليس لنا خيار في قبولها أو رفضها، فهي واقع حتمي وهي المستقبل، فمن رفضها تخلف وخرج من دائرة الحياة والمستقبل، وأصبح يعاني الأُمية الرقمية، ومن وُجد فيها من دون وعي وآليات حماية سيكون خاسراً على مختلف الصعد.
نستطيع أن نقول إننا اليوم وصلنا إلى نقطة انعطاف خطرة في تعاملنا مع هذا الواقع، فأصبحنا نخسر حياتنا الاجتماعية الواقعية مقابل حياتنا الافتراضية، وأصبحنا نفتقد تواصلنا الأسري النوعي، ونسمع عن أمراض التقنية الحديثة من الإدمان الرقمي إلى القلق السيبراني وبعض الأمراض الفيسيولوجية المتعلقة بالاستخدام الطويل للشاشة وغيرها.فكيف نكون في غمار هذا العالم مستفيدين من كل إمكاناته ومحميين من تبعاته السلبية؟
يرى الباحثون في هذا المجال أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الاستخدام الواعي لهذا العالم، أو كما يسمونه «الاتزان الرقمي»، ويقصد بـ«الاتزان الرقمي» الوصول إلى حياة صحية متزنة، نستطيع فيها التحكم باستخدامنا للتقنية واستثمارنا لوقتنا، وجعل هذه التقنية أداة لتحقيق أهدافنا، والارتقاء بحياتنا، وأن نكون نحن المسيطرين عليها وليس العكس، بمعنى آخر أن نستخدمها لخدمة مصلحتنا، وبالشكل المتزن الذي يحافظ على كينونتنا وصحتنا الجسدية والنفسية والاجتماعية، وأن نكون على وعي ويقين بأننا نتعامل مع خادم جيد، ولكنه سيد رديء إذا استسلمنا له، وأصبحنا تحت سيطرته وسطوته.
ويجب علينا أن نؤسس لـ«الاتزان الرقمي» منذ مراحل الطفولة حتى يكون سلوكاً أصيلاً في شخصية الإنسان عندما يكبر، خصوصاً أن نسبة الأطفال المستخدمين للأجهزة والمتعاملين مع العالم الرقمي في منطقتنا في حالة تزايد بشكل مقلق، وأن سلبيات التعامل المفرط مع هذا الواقع، أصبحت واضحة وجلية على أطفالنا وشبابنا.
ولن ننسى هنا دور الأسرة في التأسيس لـ«الاتزان الرقمي» عند أطفالها، لقد أظهرت دراسة بجامعة كورنيل الأميركية أن مستوى الذكاء للجيل الحالي أعلى من الجيل السابق، وربَط الخبراء ذلك باستخدام التكنولوجيا الحديثة التي عززت نمو هذا الذكاء، وفي المقابل أثبتت الدراسات العلمية أيضاً أن استخدام هذه التقنيات ووسائلها المختلفة، أدى إلى ارتفاع نسب الاكتئاب لدى الأطفال، وزاد من الأفكار الانتحارية لدى المراهقين.
إذن يجب على الأسرة أن تأخذ قراراً حاسماً هنا، فإما أن تمارس مسؤوليتها في مساعدة الأبناء على تحقيق «التوازن الرقمي»، وأن تؤسس له في وقت مبكر من حياة الطفل، وإما أن تترك مسؤولية تربية أطفالها لمؤسسي هذه التقنيات الذين لا يهمهم شيء غير كم سيحققون من الأرباح، بغض النظر عمّا ستتركه منتجاتهم من تداعيات سلبية نفسية وأخلاقية وجسدية على أجيال المستقبل.
*أستاذة الخدمة الاجتماعية بجامعة الإمارات،
مستشارة رئيس دائرة تنمية المجتمع في أبوظبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه