أوليغارش روسيا "يغسلون سمعتهم" بتبرعات بمئات ملايين الدولارات لمؤسسات أميركية
ترتبط أسماء عدد من أصحاب المليارات الذين يتبرعون بأموال طائلة للجامعات والمراكز الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بالحكومة الروسية، وفقا لتحقيق أجرته شبكة "سي إن إن" الأميركية.
وذكرت الشبكة أن أسماء هؤلاء الأثرياء "محفورة في الصغر" إلى جانب أكثر الأشخاص نفوذا ومع الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، مثل "روكيفيلر" و"وولغرين" و"كوكاكولا".
وتقول الشبكة إنه ليس من المستغرب أن تتعرض هذه النخبة الحاكمة (المعروف باسم الأوليغارش) لانتقادات حول غسيل الأموال، إلا أن الحرب التي شنها الكرملين على أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، ألقت المزيد من الضوء على هذه الفئة.
وتشير إلى أن هذه التبرعات والأعمال الخيرية التي تأتي من الأوليغارش تسببت بحساسية استثنائية، وتضرب مثلا على إعادة تسمية "الصالة الروسية" الواقع في مركز جون إف كيندي للفنون الأدائية.
حتى أن اسم أغنى رجل في روسيا، فلاديمير بوتانين، والذي يعد رفيق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بلعبة الهوكي، محفور في الصخر تشييدا بـ "ريادته الخيرية" عندما تبرع بخمسة ملايين دولار لمركز كينيدي في عام 2011، ويظهر اسمه إلى جانب شركات "جنرال موتورز" و"بوينغ" و"كابيتال ون".
وتقول "سي إن إن" إن بوتانين، الذي تمكن إلى الآن من تجنب العقوبات المفروضة على النخبة الروسية الحاكمة بسبب الحرب على أوكرانيا، قام بجمع ثروته من خلال توظيف نظام مالي قام فيه رواد الأعمال الروس بإقراض المال للحكومة في موسكو، في ظل انعدام السيولة خلال فترة رئاسة، بوريس يلتسين، بالتسعينيات.
وعندما لم تتمكن الحكومة الروسية من دفع ديونها، طالب رجال الأعمال بالحصول على أصول حكومية أساسية بسعر بخس، وتشير الشبكة إلى أن بوتانين وشركاءه تمكنوا من شراء 38 في المئة من شركة "نوريلسك" لأعمال التنجيم والتعدين مقابل 170.1 مليون دولار قبل 15 عاما، وهي حصة تقدر اليوم بقرابة 20 مليار دولار.
وكان بوتانين قد قال عند تبرعه بالمال لصالح مركز كيندي أنه يأمل أن يتمكن من "تقديم صورة لروسيا المعاصرة للجمهور الأميركي، والخروج من الكليشيهات التي تحيط بلادنا".
لكن يبدو أن هذه التبرعات تخدم غرضا آخر، ويقول جوردان جانز-مورس، البروفيسور المتخصص في الفساد عقب الحقبة السوفيتية في جامعة نورث ويسترن، لـ "سي إن إن" إنه "مثال كلاسيكي على محاولة شراء سمعة أفضل.. لصرف الانتباه عن حقيقة أنك بالفعل تتبع نظاما سلطويا".
يذكر أن وزارة الخزانة الأميركية صنفت بوتانين، عام 2018، ضمن واحد من أكثر 100 رجل أعمال نافذين من أصحاب العلاقات الوطيدة مع الكرملين
وتقول الشبكة إن الأساليب التي يتبعها بوتانين وغيره من رجال الأعمال الروس، ليست الأولى من نوعها، وأن التاريخ الأميركي مليء بالأمثلة التي حاول فيها الأثرياء غسل سمعتهم.
منها اسم أندرو كارنيغي، الذي يعرف حاليا بأسماء "قاعة كارنيغي" الفنية أو جامعة "كارنيغي ميللون"، لكن العديد لا يربط الاسم بالمواجهة الدموية الأكبر في تاريخ العمالة الأميركية، والتي شهدها مصنع تابع له في عام 1892.
ومثال آخر من السنوات الذخيرة، كان تبرع عائلة ساكلر، التي تشرف على شركة "Purdue Pharma" للأدوية بعشرات الملايين من الدولارات بعد "السمعة المميتة" التي حظي بها عقارها الشهير "OxyContin"، وبعد أزمة المواد الأفيونية تدفقت التبرعات من العائلة إلى متحف "متروبوليتان" للفنون في نيويورك واللوفر في باريس. وقد رفض متحف الصور الوطني في لندن تبرعا بقيمة 1.3 مليون دولار من عائلة ساكلر في عام 2019، داعيا إلى عدم قبول تبرعاتها مستقبلا.
وتنقل "سي إن إن" عن الخبراء قولهم إن المقرّبين من بوتين، معظمهم من النخبة التي حصلت على ثروتها بالفساد وبطرق غير مشروعة، يتجهون إلى الأعمال الخيرية في الغرب "من أجل غسل سمعتهم والحصول على فرصة للدخول إلى المجتمعات الراقية في الولايات المتحدة وأوروبا".
وتشير بروفيسورة علم الاجتماع في جامعة دارتموث، بروك هارنغتون، للشبكة الأميركية إلى أن الأوليغارش يستهدفون ثلاث فئات من المؤسسات والمراكز في أعمالهم الخيرية: الثقافية والسياسية والتعليمية.
وبينما يُطلب من معظم الجامعات الكشف عن الهدايا والعقود مع الجهات الفاعلة الأجنبية التي تتجاوز 250 ألف دولار سنويا بموجب القانون الفيدرالي، كشف تقرير صادر عن وزارة التعليم الأميركية، عام 2020، أنه لا يتم الالتزام بذلك وبشكل واسع النطاق.
ويذكر التقرير أن جامعة ييل "لم تبلِغ عن هداياها وعقودها الأجنبية بمقدار 375 مليون دولار". ورجح التقرير أن جامعة هارفرد "يبدو أنها تمتلك ضوابط مؤسسية غير كافية على تبرعاتها وعقودها الأجنبية".
وأقرت ييل بالمشكلة في ذلك الوقت، مؤكدة أنها فشلت في تقديم التقارير بين عامي 2014 و2017 ، لكنها قامت بتصحيحها منذ ذلك الحين. وقالت هارفرد إنها حددت "نطاقا أوسع من العقود" وقامت بتحديث تقاريرها وفقا لذلك.
وكشفت الشبكة الأميركية بالتعاون مع مركز "Anti-Corruption Data Collective" أن سبعة من الأثرياء الروس تبرعوا بمئات الملايين من الدولارات لصالح الجامعات والجمعيات الخيرية والمتاحف والمؤسسات الأميركية منذ عام 2009.
وتقول الشبكة إنه قبل عشر سنوات أراد بوتين أن ينمي قطاع التكنولوجيا الروسي في مركز للريادة بالعاصمة موسكو، وهو مشروع بلغت تكلفته 3 مليار دولار، أتى ذلك تزامنا مع تقارب روسي أميركي في معهد ماساتشوستس التقني "إم آي تي"، لتدخل مؤسسة "سكولكوفو"، التي يشرف عليها أحد أبرز المقربين من بوتين، فيكتور فيكسيلبيرغ، في شراكة مع المعهد عام 2011، وتساهما في بناء مركز سكولفكو للعلوم والتكنولوجيا أو "سكولتيك".
يذكر أن فيكسيلبيرغ، كغيره من الأوليغارش الروس، جمع ثروته خلال فترة تخصيص المصادر الطبيعية، بالأخص النفط والمعادن، في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومنحت مؤسسة "سكولكوفو" 300 مليون دولار لمعهد ماساتشوستس التقني، وخصص نصفه لتطوير منهاج "سكولتيك"، وفقا لموقع "WGBH" المحلي في بوسطن.
لكن وبعد الضم الروسي لإقليم القرم في عام 2014، أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" تحذيرا خارجا عن المألوف، حيث قال في بيان: "المؤسسة (سكولكوفو) قد تكون وسيلة للحكومة الروسية كي تدخل إلى قطاع تطوير الأبحاث الحساس أو السري لأمّتنا والاستخدام المزدوج للتكنولوجيات ذات التطبيقين العسكري والتجاري".
واستنكر عميد كلية "سكولتيك" الادعاءات، كما استبعد معهد "إم آي تي" أي مخاوف من ذلك، حتى أنه جدد تعيين فيكسيلبيرغ لمجلس ثقته في عام 2015، لكنها أنهت تعاملها معه في عام 2018، عندما شملته عقوبات أميركية لاستفادته من التعامل مع نظام بوتين، لكن ذلك لم يوقف المعهد الأميركي من التعامل مع جهات روسية أخرى، وأعلن نظاما جديدا للتحقق من خلفية المتبرعين المالية، وفقا لـ "سي أن أن".
لكن "إم آي تي" أنهى كل التعاملات مع أصحاب الأموال الروس قبل شهرين، أي بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وقال المعهد في بيان إن قرار إنهاء التعامل مع "سكولتيك" يأتي "بحزن عميق، لكن تصرفات الحكومة الروسية أوضحت اختيارنا ... هذا لا يقلل من فخرنا بالعمل الذي قمنا به لتطوير سكولتيك وبالأبحاث من الدرجة الأولى التي انبثقت عن العلاقة".
وتقول كايسي ميشيل، الخبيرة في الكليبتوقراطية (إثراء السياسيين لأنفسهم خارج القانون) وسبل التمويل غير المشروع: "إنه ضرب من الجنون أن يتمكن أكبر الأوليغارش المنبثقين من روسيا من الحصول على مقعد في المجلس الحقيقي لأكثر الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأميركية".
وتقول البروفيسورة هارينغتون، إنه يجب على المؤسسات أن تتذكر إلى أي جهة توفر خدماتها "من واجب هذه المؤسسات أن تسأل نفسها: هل يخدم هذا المصلحة العامة.. هل
هم هنا بصدد غسل سمعتهم والترويج لأجندة يحملها من يتشح الآن أنه عدو للدولة؟"
من جهتها، تحث ميشال الجامعات، وبالأخص المرموقة مثل "إم آي تي" أن تؤسس أنظمة داخلية للتحقق من مصادر أموال المتبرعين.
وتضيف "عليها أن تفكر بنفسها، كونها المالكة لتلك المصادر، أن تفحص وتفهم تداعيات تلم التبرعات، وتلك الأبواب المفتوحة".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news