واشنطن تتجه لإعادة تقييم حسابات وجودها العسكري في سورية

على عكس المشهد الذي شهدته الحدود السورية - العراقية بخروج القوات الأميركية من القواعد العسكرية، شرق الفرات باتجاه نظيراتها في العراق، لاسيما قاعدة «عين الأسد»، عقب قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في الثامن من أكتوبر 2019، بالانسحاب العسكري من سورية، كشفت تقارير رسمية سورية عن دخول قافلة أميركية مكونة من 45 شاحنة، محمّلة بمعدات لوجستية، عبر العراق، في اتجاه مناطق دير الزور وريف الحسكة الشمالي، في منتصف مارس الجاري، حيث يوجد نحو 25 تمركزاً عسكرياً أميركياً ضمن نقاط انتشار في 33 موقعاً لقوات التحالف الدولي بشكل عام. وبعد 10 أيام من تولي الإدارة الجديدة، تم افتتاح قاعدة أميركية جديدة في اليعربية بريف الحسكة الشمالي، في منطقة مثلث الحدود (السورية ــ العراقية ــ التركية)، وهي القاعدة الثانية التي يتم إنشاؤها بعد شهر على تأسيس قاعدة جوية في منطقة «حقل العمر» النفطي في ريف دير الزور الشرقي، حيث تقول واشنطن إنها تهدف إلى الحيلولة دون وصول عناصر تنظيم «داعش» مرة أخرى إلى الحقول النفطية.

غياب البديل

مع إشارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى فشل السياسة الأميركية في سورية، على مدار فترة الصراع التي مضى عليها 10 سنوات، لا يبدو أن هناك خطة سياسية أميركية واضحة، فقد أبقت الإدارة على المبعوث الخاص إلى سورية، جويل رايبيرن، الذي تم تعيينه في عهد الإدارة السابقة (نوفمبر 2020)، كما تشير تقديرات أميركية عدة إلى أن الإدارة لا تمنح أولوية للصراع السوري شأن الصراع في اليمن، على سبيل المثال، الذي كان محل اهتمام الرئيس جو بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لكن الحادث اللافت هو أن أول ضربة عسكرية في عهد الإدارة الجديدة، كانت في سورية على مقربة من الحدود العراقية، لاستهداف ميليشيات موالية لإيران هناك، والتي جرى اعتبارها ضربة مضادة، رداً على استهداف ميليشيات أخرى في العراق قاعدة عسكرية أميركية في أربيل.

وقد تركزت الاستراتيجية الأميركية خلال الفترة السابقة على العمل ضمن استراتيجية التحالف في إطار الحرب على تنظيم «داعش» في سورية، وبعد هزيمة التنظيم، تحوّلت إلى ملاحقة فلوله، والحيلولة دون عودته مرة أخرى إلى آبار النفط. وفيما لايزال هذا الهدف قائماً، إلا أنه من المتوقع أن تضع واشنطن استراتيجية جديدة للمرحلة المقبلة، فقد كشف قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، فرانك ماكنزي، عن ترقب صدور قرارات جديدة من الرئيس جو بايدن، بشأن مستقبل وجود القوات الأميركية في سورية، وقال: «ننتظر ما سيقرره الرئيس بايدن، وأنه إذا كان في استمرار بقائنا في سورية مصلحة لأميركا فسنبقى إلى أجل غير مسمى».

دوافع عدة

من المتصور أن حسابات الوجود الأميركي في سورية تبنى على عدد من الاعتبارات والدوافع، منها:

1- معالجة الخلل في موازين القوى:

كأولوية استراتيجية، تسعى القوات الأميركية إلى الضغط على نظيرتها الروسية، بهدف الحد من مساعي تمدد الأخيرة في مناطق شرق وشمال شرق البلاد، حيث توجد 13 نقطة تقريباً، بعضها لقوات روسية، على أطراف مناطق الانتشار العسكري التركي في الشمال الشرقي، وبعضها الآخر بطول الفاصل بين شرق وغرب الفرات، وتحديداً عن منطقة الرقة، والمجموعة الثالثة تلتقي عند دير الزور، وكثيراً ما حدثت احتكاكات بين الطرفين، تشير إلى مستوى التقارب في المسافات بين تلك القواعد.

كذلك من المتصور أن الولايات المتحدة بصدد التعامل مع طبيعة الانتشار العسكري التركي في شمال سورية، ووفقاً لخريطة الانتشار، فإن 20 تمركزاً عسكرياً أميركياً من إجمالي نقاط التمركز العسكري المنفصلة والمشتركة مع التحالف الدولي، توجد في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد).

وخلال الأيام الماضية، شنت القوات التركية هجمات على ريف الرقة الشمالي، إضافة إلى إنشاء قاعدة عسكرية جديدة، تضمنت نشر منظومات دفاع في محيط عين عيسى، التي تعد مركز الإدارة الذاتية للأكراد، وتراهن العديد من التقديرات على أن الزيارة التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركي، أنتوتي بلينكن، حالياً إلى تركيا، تهدف إلى دفع أنقرة لمراجعة سياستها تجاه الولايات المتحدة، والانخراط في الإقليم، ومحاولة تسوية القضايا الخلافية، ومنها تنامي العلاقات الروسية - التركية، التي كانت لها انعكاساتها السياسية والميدانية على الأوضاع في سورية.

2- منع التمدد الإيراني شرق الفرات

وهو القاسم المشترك في معظم التصريحات الأميركية، حيث يرى المسؤولون الأميركيون أن خروج القوات الأميركية تنفيذاً لقرارات الإدارة السابقة، سيصب في مصلحة إيران، التي ستعمل على التمدد في الفراغ بمناطق شرق الفرات، ما قد يوفّر فرصة لمعادلة موازين قوى جديدة لن تكون في مصلحة واشنطن وحلفائها هناك، بينما سيضاعف من النفوذ الإيراني في تلك المناطق، على حساب مساحة انتشار التحالف الدولي والأكراد، إذ إن إخلاء القوات الأميركية من شرق الفرات، سيخفض وجود قوات التحالف الدولي إلى أقل من ثلث مستوى الانتشار، وسيسمح للميليشيات الإيرانية بتطويق مناطق الأكراد ومحاصرتها.

ويتوقع أن يتنامى التصعيد العسكري من جانب النظام وإيران في تلك المناطق، بدعوى ملاحقة تنظيم «داعش»، إضافة إلى ذلك ظهر البعد الإسرائيلي في إطار الموقف من إيران، وعلى الرغم من أن إسرائيل اتجهت صوب روسيا، في إطار زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكينازي، إلى موسكو، قبل أسبوع، تركزت حول تطورات معادلة الاشتباك الإيراني - الإسرائيلي، لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة تضع تلك المعادلة في حساباتها، سواء من منظور الملف الإيراني بشكل عام، أو وفق حسابات الملف السوري بشكل خاص.

3- الضغط لتحريك العملية السياسية

بالتزامن مع تصريحات ماكنزي، كشف قائد التحالف الدولي بول كالفيرت عن أهم الأسباب التي تدفع التحالف للبقاء ضمن مناطق شمال شرق سورية، وهو «الدفع باتجاه حل سياسي للبلاد بشكل كلي»، وفي إطار تحقيق التوازن مع مناطق النفوذ الخاضعة لموسكو وطهران. وبالتالي يشير كالفيرت إلى أن الوجود يمثل أداة ضغط على القوى الخارجية التي تدعم النظام، ليس إيران فقط، وإنما أيضاً روسيا. وأفادت تقارير دولية بأن محادثات أميركية ــ سورية مباشرة جرت أخيراً للمرة الأولى منذ سنوات، جمعت بين مسؤول أميركي موجود في المنطقة ورئيس جهاز الأمن الوطني السوري، علي مملوك، تطرقت للوجود العسكري الأميركي والعملية السياسية، وبحسب تلك التقارير لم يتم التوصل إلى نتائج، لكن اللقاء في حد ذاته يظل متغيراً، إلا أنه في أعقاب تلك التقارير، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، إن «الإدارة الأميركية تواصل الترويج لتسوية سياسية تنهي النزاع في سورية، دون التطبيع مع النظام».

في المقابل، يبدو أن التحركات الأميركية في الوقت ذاته تهدف إلى التوصل إلى مقاربة مختلفة مع روسيا وتركيا، لتحويل مسار عملية التسوية من آستانا إلى مسار جديد، لكن وفق تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال لقائه مع أشكينازي، فإن موسكو تسعى للتسوية، لكنها لا تعرف أبعاد رؤية «المجموعة المصغرة»، التي تضم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة، التي يريد المبعوث الأممي، غير بيدرسون، إشراكها في عملية التسوية، وبالتالي فإن تعزيز الوجود الأميركي عسكرياً يظل ورقة لعدم التنازل عن مساحة النفوذ في سورية، بل إن دعمه سيسهم، بحسب وجهة النظر الأميركية، في تغيير التوازنات الخاصة بالعملية السياسية أيضاً.

إجمالاً، يمكن القول إن الإدارة الأميركية الجديدة تراهن على توظيف مساحة الانتشار العسكري التي لن تزيد ولن تنقص، لكن يمكن تحسين وضعها على مستوى القدرات والإمكانات، أملاً في أن يسهم ذلك في تغير نظرة الأطراف المعارضة للوجود العسكري الأميركي في سورية، التي ترى بدورها أن واشنطن لا تمتلك رؤية استراتيجية تجاه سورية. وفي واقع الأمر، فإن واشنطن في المقابل لم تقدم رؤية استراتيجية لسورية، بقدر ما تعكس تحركاتها نوايا، مفادها أنها تعمل على تثبيت أقدامها فقط، للتكيف مع التطورات التي يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، في حال قررت مغادرة سورية.

لكن في حال نجح الرهان الأميركي على استقطاب تركيا، قد تتغير المعادلات السياسية والأمنية، وقد أبدت أنقرة نوايا هي الأخرى في إمكانية التعامل مع الملف بصيغة أكثر براغماتية لحلحلة أزماتها مع واشنطن، قد يكون من بينها ترتيب الوضع في سورية، خصوصاً أن هناك مشتركات سياسية بين الطرفين، في مقدمتها اتفاقهما على إبعاد الرئيس بشار الأسد من المشهد السياسي، على عكس موقف موسكو وطهران. كذلك من مصلحة تركيا انخراط الأكراد في تسوية سياسية، تعيد دمجهم في المنظومة السياسية المحلية، بدلاً من التركيز على مكاسب في إطار الحكم الذاتي الذي يشكل هاجساً لها، كذلك فإن اصطفاف تركيا إلى جانب الولايات المتحدة سيدفع موسكو إلى تغيير تكتيكاتها.

خريطة الانتشار

الاستنتاج الرئيس من محصلة التطورات في سورية هو أنه لم يعد أي طرف يفضّل وضع رؤية استراتيجية للتعامل مع الأزمة السورية وتطوراتها، وإنما من مصلحة الأطراف جميعها تغيير الحسابات تكتيكياً للتكيّف مع تطورات المشهد السوري من حين إلى آخر. وستظل خريطة الانتشار العسكري بشكل عام انعكاساً لحجم النفوذ وموازين القوى، ورغم أنه لا يبدو أن هذه الخريطة ستشهد تغيراً، لكن يمكن للتحالفات القائمة عليها أن تتغير وفق ما تقتضيه المصالح.

• الإدارة الأميركية الجديدة تراهن على توظيف مساحة الانتشار العسكري في سورية التي لن تزيد ولن تنقص، لكن يمكن تحسين وضعها على مستوى القدرات والإمكانات، أملاً في أن يسهم ذلك في تغير نظرة الأطراف المعارضة للوجود العسكري الأميركي في سورية.

الأكثر مشاركة