بوادر انتفاضة جديدة في الأراضي المحتلة تبدو بعيدة
الإسرائيليون يطلقون النار على الفلسطينيين، والفلسطينيون يردون على الإسرائيليين بالمثل. أصبح الحرم الشريف مرة أخرى مسرحاً للمواجهات بين الطرفين. وأحرق المتطرفون الإسرائيليون، الأسبوع الماضي، طفلاً فلسطينياً يبلغ من العمر 18 شهراً حتى الموت، بعد أن أشعلوا النار في بيت أهله، إذن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يلتهب مرة أخرى. ويبدو أن مجلس العلاقات الخارجية الأميركية يريد أن يلفت الانتباه إلى العنف المتزايد في الأراضي المحتلة، لهذا أصدر الزميل السابق - الحديث للكاتب - في وزارة الخارجية الأميركية، ستيفن سايمون، أحد أفضل المحللين في الشرق الأوسط، تحليلاً عن الوضع هناك. وتستحق ورقة ستيف حقاً القراءة، لأنها تنطوي على تحليل من الدرجة الأولى لما يجري في الأراضي المحتلة الآن، وكيف يبدو الوضع حسب رأيه.
هل نحن على أعتاب انفجار جديد، أو بالأحرى انتفاضة ثالثة، ظل يتوقعها كثيرون قبل فترة من الوقت؟ من الصعب أن نقول ذلك، فالشرق الأوسط مليء بمفاجآت لا يستطيع كثير من المحللين الأميركيين - وأنا منهم - أن يتكهنوا بها، ونذكر منها الانتفاضة الأولى، و«الربيع العربي»، لكنني كنت أراهن - كما فعلت في الصيف الماضي عندما انفجرت الأحداث على الأرض، جراء مقتل المراهقين الإسرائيليين الثلاثة، والقتل الوحشي لشاب فلسطيني، ما هدد باندلاع العنف في الضفة الغربية - بأننا لم نصل حتى الآن إلى حافة انفجار كبير. وبالطبع، قد يحدث شيء يطلق حريقاً جديداً، وموجة ضخمة ومتواصلة من العنف، جراء محاولة تدنيس أو تدمير أحد المسجدين الاثنين في الحرم الشريف مثلاً، ولكن لاتزال العوامل الجديدة والقديمة تجعل اندلاع انتفاضة جديدة أمراً غير مرجح.
وإلى حد بعيد، فإن أكبر عقبة تقف في طريق انتفاضة أخرى، هي التكاليف التي تمخضت عن الانتفاضات السابقة، ويمكننا أن نجادل أن هناك مزايا للانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1987، فقد وضعت تلك الانتفاضة الفلسطينيين فعلاً على خريطة إسرائيل السياسية، وأجبرت القادة الإسرائيليين، لاسيما الزعيم الراحل إسحق رابين، الذي كان وزيراً للدفاع في ذلك الوقت، على استنتاج مفاده عدم جدوى الحل العسكري للمشكلة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن عملية أوسلو للسلام، التي تمخضت عن تلك الانتفاضة، فشلت في تحقيق تسوية دائمة، إلا أنها نجحت في ترسيخ الحكم السياسي الفلسطيني في جزء من فلسطين التاريخية، وجعلت الدولة الفلسطينية هي القضية المركزية.
إلا أن العنف كان مكلفاً للفلسطينيين، وعلى وجه الخصوص الانتفاضة الثانية، فقد أفضت الى مقتل نحو 4000 شخص (معظمهم من الفلسطينيين)؛ وعانى الاقتصاد الفلسطيني ومؤسسات الدولة الفلسطينية أضراراً لا يمكن ترميمها على ما يبدو، وزعزع الرد الفلسطيني، خصوصاً التفجيرات «الاستشهادية»، أحزاب الوسط الإسرائيلي، ما أدى لانطلاق مزاعم يغذيها اليمين الإسرائيلي، بأن الإسرائيليين ليس لديهم شريك فلسطيني لإرساء دعائم السلام، وغذت هذه المزاعم صعود اليمين الإسرائيلي والاستيطان، وتقوضت صدقية الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الفلسطينية، وهيأ فشل حركة فتح في إنهاء الاحتلال، وتخلصها من الفساد، وتحسين الاقتصاد الفلسطيني الظروف لصعود حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لهذا السبب فمن غير المرجح أن ينظم الفلسطينيون انتفاضة أخرى، يمكن أن تؤدي إلى المزيد من النكسات.ويفضل رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اتفاق طويل الأمد مع «حماس» على قطاع غزة، بدلا من الخوض مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في مفاوضات مزروعة بالألغام السياسية حول حل الدولتين. ويبدو أن المفاوضات على غزة لن تتمخض عن أي اتفاق، لأن مستوى انعدام الثقة بين «حماس» وإسرائيل عالي للغاية، لكنها تضمن على الأقل أن أيا من الجانبين لا يبحث عن تصعيد.وبالنسبة لمحمود عباس، فإن أي انتفاضة عنيفة قد تضعف دبلوماسيته الدولية الحالية، وتعمل على تهميشه لأبعد من ذلك. ويعكس اصراره على التعاون الأمني الفلسطيني مع إسرائيل كل هذه السنوات الطويلة، رأيه في أي انتفاضة مسلحة.
دروس أخرى من التاريخ قد تجعل من غير المحتمل ظهور انتفاضة أخرى، كما أن الانتفاضتين الأخيرتين آلمتا إسرائيل وكبدتاها خسائر جسيمة، وبرهنتا على أن الاحتلال الإسرائيلي ليس مشروعاً «استعمارياً» ناجحاً. وخلافاً لغيره من «الاستعمار»، حيث يمكن للمحتل أن ينسحب في أي وقت، بسبب العنف من جانب السكان المحليين، ليعود ببساطة إلى الوطن الأم (مثل الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي، أو فيتنام تحت حكم الفرنسيين والأميركيين)، فإن الإسرائيليين ليس لديهم خيار ليذهبوا إلى أي مكان آخر. ويعلم الفلسطينيون أن فك الارتباط أحادي الجانب من غزة، والذي نفذه أرئيل شارون عام 2005 لم يكن يشكل سابقة، وليس من المحتمل أن يتكرر في الضفة الغربية. الرياح الجيوسياسية أيضاً تهب على الشرق الأوسط لتحول دون انتفاضة أخرى، فقد تورطت «حماس» ربما في واحدة من أسوأ أزماتها منذ نشأتها في أواخر ثمانينات القرن الماضي، حيث نضب معينها من الأموال تحت ضغط من مصر وإسرائيل، ولم تعد قادرة على تقديم المساعدة الاقتصادية والدعم لأفراد الشعب، وهذا يعني أن «حماس» ليست في حالة تسمح لها الآن بالذهاب إلى الحرب، سواء باستئناف إطلاق الصواريخ والقذائف على إسرائيل، أو التحريض على الانتفاضة في الضفة الغربية.
الأسبوع الماضي، أعلن مسؤولون في «حماس» أن المساعدات الإيرانية للحركة انخفضت بشكل كبير، بعد أن توترت علاقاتها مع طهران، منذ أُجبر القادة السياسيون لحركة «حماس» على النأي بأنفسهم عن الحكومة السورية المدعومة من إيران، والتي تقتل السنة والفلسطينيين في سورية. ويتجسد ضعف «حماس» الحالي أيضاً في تقارير المفاوضات مع إسرائيل، حول تسوية انتقالية بعيدة المدى، تمنع وقوع أي حرب أخرى في غزة. ويبدو أن هذا النهج مقنع، على الأقل على الورق، لأن «حماس» تريد فتح قطاع غزة اقتصادياً، وأن يتاح لها التعاون مع إسرائيل.