الملاذات البديلة للتنظيمات المتـــــطرفة بعد أزمة قطر
أدى تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على قطر بسبب دعمها التنظيمات المتطرفة إلى تقييم قيادات وكوادر هذه التنظيمات، خصوصاً المنتمين لجماعة «الإخوان المُسلمين»، للدول والعواصم التي يمكن أن تمثل «ملاذات بديلة» عن الدوحة، في حال اتخاذ قطر قراراً بطردهم، وهو ما سيؤدي إلى التغير في سياسات دعم التنظيمات المتطرفة من الاستضافة والتمويل إلى «الرعاية بالوكالة»، من خلال الدعم الخفي لهذه التنظيمات في الحواضن الإقليمية البديلة.
خصائص «الوجهات البديلة»
كانت قطر تعتبر «معقلاً نموذجياً» لقادة وأعضاء التنظيمات المتطرفة، ليس فقط لأنهم يتمتعون بدعم حكومة الدوحة، وإنما أيضاً لأنهم يتمكنون من دعم تنظيماتهم مالياً وإعلامياً انطلاقاً من الأراضي القطرية، من دون أية عوائق أو مخاوف من ملاحقات أمنية، وبالتالي فإن الدول التي يمكن أن يلجأ إليها هؤلاء القادة في حالة خروجهم من قطر، يجب أن تتوافر فيها مجموعة من الشروط، تأتي في صدارتها ضمانات «الأمن»، بمعنى توافر درجة عالية من الثقة بعدم تغير مواقف هذه الدول واتجاهها لملاحقتهم أمنياً وتسليمهم إلى دولهم الأصلية، بالإضافة إلى عدم وجود قيود على دعمهم لفروع وخلايا تنظيماتهم في دول الشرق الأوسط.
وتتمثل أهم هذه الضمانات الأمنية في وجود علاقات وثيقة بين الجماعات المتطرفة وحكومات بعض الدول، مثل تركيا، التي ترتبط بعلاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين.
ويمكن لقيادات التنظيمات المتطرفة اللجوء إلى دول بها تيارات دينية لها وجود مؤثر في توجهات وسياسات الحكومات، مثل باكستان أو ماليزيا، أو دول أخرى بها نشاط لأعضاء هذه التنظيمات تحت غطاء الجمعيات الإسلامية، مثل «جنوب إفريقيا»، التي ينشط فيها بعض أعضاء «جماعة الإخوان» ضمن مؤسسات المجتمع الأهلي والجمعيات الخيرية والدعوية.
وستتوقف هذه الخيارات بشكل كبير، على مدى استعداد تلك الدول لاستقبال هؤلاء القيادات في ظل وجودهم على قوائم الإرهاب الإقليمية والدولية، وملاحقة المؤسسات الأمنية الدولية لهم عبر الإقليم، كما أن العديد من الدول المرشحة لاستقبال التنظيمات المتطرفة تربطها علاقات جيدة مع بعض الجهات التي تصنف هؤلاء القيادات كإرهابيين، ما سيجعلها تراجع حساباتها أكثر من مرة قبل الإقدام على هذه الخطوة.
من جهة أخرى، فإن هذه الوجهات أو البدائل ليست مناسبة لجميع القيادات الموجودة على الأراضي القطرية، في ظل تنوعهم الفكري والتنظيمي، حيث تشمل قائمة القيادات والكوادر التي تستضيفها قطر قيادات جماعة الإخوان المسلمين، والقيادات السلفية والمرجعيات الدينية للتنظيمات المتطرفة، وبعض أعضاء تنظيم «القاعدة» وفروعه الإقليمية، والمجموعات القريبة منه أو المتحالفة معه، لذا فإن الملاذات البديلة ستختلف وتتنوع وفق شبكة علاقات التنظيمات المختلفة، وتقييمات هذه القيادات للدول التي يمكنهم اتخاذها كمنطلقات بديلة لتحركاتهم الإقليمية.
خريطة «الحواضن الآمنة»:
تداعيات مغادرة الدوحة سيترتب على خروج قيادات التنظيمات المتطرفة بشكل عام من قطر، والتوجه إلى دول أخرى، عدد من التداعيات على نشاط وعمليات تلك التنظيمات، فبخلاف فقدان الملاذ الآمن، فإن هذه التنظيمات سوف تحرم من المنابر الإعلامية، التي توفرها لها «الدوحة»، حيث إن قناة الجزيرة القطرية، كانت تعد المنصة الإعلامية الرئيسة لقادة هذه التنظيمات، ليس لعرض أفكارهم فحسب، بل للتحريض من خلالها على العنف. وتتمثل أهم نماذج هذا الدعم في حوار «الجزيرة» مع أبومحمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة، جناح القاعدة في سورية، في سبتمبر 2016، فضلاً عن استضافتها بعض رموز هذه التنظيمات، مثل عبدالله المحيسني، مسؤول التشريع بجبهة النصرة، الذي تمت استضافته في نوفمبر 2016، والذي ظهر سابقاً في تسجيل مصور وهو يبارك أحد الأشخاص قبل تنفيذه عملية انتحارية، ولقد أسهم هذا الوجود الإعلامي لقيادات «القاعدة» بـ«الجزيرة» في تعزيز أنشطتها الدعائية، واجتذاب عناصر جديدة لصفوفها. ويرجح أن يؤثر خروج هؤلاء القيادات في تمويل التنظيمات التي ينتمون إليها، نظراً لأن التمويل كان يأتي مباشرة من الدوحة، ويتم نقله إلى التنظيمات التابعة لها، ويرتبط ذلك بتوجيه اتهامات متتالية من جانب قائد الجيش الوطني الليبي، اللواء خليفة حفتر، إلى قطر بدعم وتمويل المقاتلين المرتزقة من تشاد، والسودان، الذين يقاتلون في صفوف التنظيمات القاعدية على الأراضي الليبية، نظراً لوجود عدد من قيادات هذه التنظيمات، من أمثال «عبدالحكيم بلحاج» و«الصلابي» على الأراضي القطرية. • تمثل بؤر الصراعات الإقليمية في سورية واليمن والمناطق التي تنشط بها المجموعات القاعدية، مثل دول «الساحل والصحراء» في إفريقيا، وجهات مُحتملة لقيادات وعناصر «القاعدة» والتنظيمات السلفية، الموجودين على الأراضي القطرية، إلا أنها تُعد غير آمنة مقارنة بالدوحة أو طهران. • يُعد دعم راشد الغنوشي سياسات قطر، خلال الأزمة القطرية في يوليو 2017، نموذجاً للتوافقات المصلحية والفكرية بين تركيا و«الإخوان»، وهو ما يجعلها القبلة الأكثر أمناً لقياداتهم، والوجهة الأكثر ترجيحاً لاستقبال أعضاء الجماعة المغادرين لقطر. |
لا يوجد معيار واحد لتحديد مدى ملاءمة الملاذات البديلة للتنظيمات المتطرفة التي تستضيفها قطر، وفي هذا الإطار تتنوع مناطق التمركز الجديدة للتنظيمات الإرهابية، وفقاً لخصوصية كل تنظيم، بحيث يمكن تصنيفها كما يلي:
1- جماعة الإخوان المسلمين:
أدى تمتّع «الإخوان» بمنظومة فكرية براغماتية، إلى تأسيسها علاقات قوية مع حكومات ونخب عدد من الدول، على الرغم من الخلافات العقائدية، مثل إيران، التي تجمعها علاقة قوية مع الجماعة، منذ عهد الخميني، الذي وصفته عند وفاته، بأنه «القائد الذي فجّر الثورة الإسلامية ضد الطغاة»، ولاتزال العلاقة قوية حتى الآن، وهذا ما يفسر صمت الجماعة تجاه الأفعال التخريبية والإرهابية لإيران، مثل الاعتداء على السفارة السعودية في طهران في يناير 2016، أو ما تقوم به إيران في العراق واليمن وسورية.
وتظل علاقة «الإخوان» مع تركيا هي الأقوى بالمقارنة مع الدول الأخرى، منذ وصول أردوغان لسدة الحكم في أنقرة، حيث تطور التحالف الوثيق بين «الإخوان» وأردوغان بقوة في أعقاب 2011، إذ دعمت تركيا «الإخوان» في دول الانتفاضات العربية، في إطار سياسات إقليمية لدعم تيارات الإسلام السياسي، وعقب 30 يونيو في مصر، أصبحت تركيا قبلة «الإخوان» الهاربين، وفي صدارة المقار لقنواتهم ومنصاتهم الإعلامية، ومركزاً أساسياً لإدارة أنشطة قياداتهم وكوادرهم في الدول العربية.
ويفسر هذا التحالف الوثيق، تأييد قيادات الجماعة السياسات والمواقف الإقليمية لتركيا، ومنحها صك الشرعية الدينية، ويعد دعم راشد الغنوشي سياسات قطر خلال الأزمة القطرية في يوليو 2017 نموذجاً للتوافقات المصلحية والفكرية بين تركيا و«الإخوان»، وهو ما يجعلها القبلة الأكثر أمناً لقياداتهم، والوجهة الأكثر ترجيحاً لاستقبال أعضاء الجماعة المغادرين قطر.
وتعد إيران مرشحة بقوة لاستقبال قادة «الإخوان» خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن كلاً منهما يجد في الآخر ضالته المنشودة، فـ«الإخوان» بحاجة إلى دول تعترف بهم ولا تصنفهم كجماعة إرهابية، مثل غالبية الدول العربية، وفي المقابل تحتاج إيران إلى الجماعة لنفي الاتهامات الطائفية الموجهة لها، وتحسين صورتها التي تشوهت كثيراً بسبب تدخلها الطائفي في سورية والعراق واليمن.
كما تمثل تونس أحد الملاذات المُحتملة لاستقبال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، خصوصاً في ظل مركزية موقع حركة «النهضة» الإخوانية، ضمن المشهد السياسي التونسي، ودعمها العلني لقطر منذ بداية الأزمة، وتصريحات ومواقف قياداتها العدائية ضد دول الرباعية العربية، وهو ما يجعلها مؤهلة لاستقبال أعضاء الجماعة الموجودين في قطر، خصوصاً أن حزب «حراك تونس الإرادة»، الذي يتزعمه الرئيس السابق المنصف المرزوقي، أعلن وقوفه إلى جانب قطر صراحةً، بسبب دورها في دعم وصول المرزوقي للسلطة.
وتضم قائمة الدول المُرشحة لاستقبال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، باكستان وماليزيا، وجنوب إفريقيا، ولكن هذه الدول يمكن أن تستقبل هؤلاء القيادات كأفراد بصفاتهم الشخصية من دون أن تكون مقراً بديلاً للتنظيم تتم من خلاله إدارة العمليات والأنشطة وإطلاق المنصات الإعلامية، حيث ستحرص هذه الدول على حماية أمنها الداخلي، والحفاظ على علاقاتها بالدول الأربع المضادة للإرهاب.
2- قيادات تنظيم القاعدة:
يبدو أن الخيارات المتاحة أمام أعضاء «القاعدة» وحلفائهم الموجودين في قطر، محدودة مقارنة بالخيارات المتاحة أمام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فالتنظيم ليس له علاقة جيدة مع تركيا، وبالتالي فهي لن تسمح غالباً لأعضائه بالانتقال إلى أراضيها، خصوصاً بعد تدهور العلاقة بين تركيا وتنظيم القاعدة في سورية، بعد رفض هيئة تحرير الشام «جبهة النصرة سابقاً»، في يونيو 2017، دخول قوات تركية إلى «إدلب»، ما أدى إلى توترات حادة في العلاقات بين الطرفين.
ولن تكون تونس ضمن الملاذات الآمنة لقيادات «القاعدة»، في ظل تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، وتصاعد التهديدات نتيجة النشاط المتزايد لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي أصبح يهدد تونس بشكل مباشر. أما الدول الأخرى كـ«ماليزيا» أو «باكستان» فاستقبالها عناصر القاعدة أمر مستبعد، في تلك الظروف.
وتنحصر الخيارات المتاحة أمام أعضاء «القاعدة» في «إيران»، خصوصاً في ظل التحالف مع قطر في تلك الأزمة، لاسيما أن إيران تعد ملاذاً قديماً لأعضاء تنظيم القاعدة، على الرغم من الاختلاف العقائدي بين الطرفين، حيث أصبحت إيران إحدى أهم الدول المفضلة لبعض قادة التنظيم، من أمثال سيف العدل وياسين السوري ومحمد المصري، الذين لجأوا إليها في أواخر عام 2001، بعد انهيار نظام طالبان في أفغانستان، حيث كانت إيران تستخدمهم كورقة ضغط في مواجهة بعض دول المنطقة. وتفسر هذه العلاقة إحجام «القاعدة» عن استهداف إيران ومصالحها المختلفة، وأدى ذلك لاحقاً إلى انفصال القيادي السابق «أبومصعب الزرقاوي» عن «القاعدة»، لرفضه عدم استهداف مصالح إيران، وهذا ما كشف عنه «أبومحمد العدناني» في مايو 2014، بأنهم كانوا قبل تأسيس «داعش» يبتعدون تماماً عن استهداف إيران، امتثالاً لأوامر «القاعدة»، وذلك للحفاظ على مصالح التنظيم، وخطوط إمداده في إيران.
وتمثل بؤر الصراعات الإقليمية في سورية واليمن والمناطق التي تنشط بها المجموعات القاعدية، مثل دول «الساحل والصحراء» في إفريقيا وجهات مُحتملة لقيادات وعناصر «القاعدة» والتنظيمات السلفية، الموجودين على الأراضي القطرية، إلا أن هذه الوجهات تعد غير آمنة مقارنة بالدوحة أو طهران.
وختاماً، ستتعرض التنظيمات المتطرفة لضربة قوية في حال قيام قطر بإنهاء استضافتها قياداتهم وكوادرهم ووقفها الدعم المالي والإعلامي الذي تقدمه إليها، لأن ذلك سيحد بشكل كبير من أنشطتها، إلا أن الدوحة قد تستعيض عن سياسات الرعاية المباشرة للتنظيمات المتطرفة، بالدعم الخفي وغير المعلن لهذه التنظيمات في المقار والملاذات البديلة، وهو ما سيجعلها تتجاوز تداعيات خروجها المحتمل من قطر لتواصل تهديدها أمن واستقرار دول الشرق الأوسط، وهو ما يعزز أهمية التوصل إلى معايير دقيقة لمراجعة مدى الالتزام القطري بوقف دعم الإرهاب.