أجهزة التنفس الاصطناعي.. «السلاح المفقود» في المعركة ضد «كورونا»

أجهزة التنفس الاصطناعي، التي قد يتسبب خطأ بسيط في تشغيلها، بعبور الخط الأحمر الفاصل بين الحياة أو الموت

في الوقت الذي تتحضر فيه دول العالم، وتحديداً الولايات المتحدة وأوروبا، لبلوغ مرحلة الذروة الحرجة لانتشار فيروس «كورونا المستجد»، تواجه المستشفيات المركزية والميدانية والمراكز الطبية واقعا قاتما، إذ ليس ثمة ما يكفي من أجهزة التنفس الاصطناعي الضرورية لمساعدة الأرواح العليلة المصابة، كما لا تلوح في الأفق القريب بارقة أمل لحل معضلة النقص هذه قبل أن يباشر الفيروس المميت هجماته الموجعة خلال الأيام القليلة المقبلة.

فقد أعلنت المستشفيات الأميركية إنها باتت عاجزة تماما عن إيجاد أي مصدر لشراء أجهزة التنفس الاصطناعي، التي يقول الأطباء إنها تشكل جزءاً حيوياً لمساعدة المصابين بفيروس «كورونا المستجد» على إبقاء رئاتهم قيد العمل، والتي تشكل بحق الفارق الفاصل ما بين الحياة والموت في حالات المرض المتقدمة. ويبرر مصنعو أجهزة التنفس الاصطناعي عدم قدرتهم على تلبية طلبات المستشفيات الملحة بالقول إنهم عاجزون عن تسريع الإنتاج بما يكفي لتلبية الطلبات الديناصورية المفاجئة.

وبعدما بات النقص الحاد في أجهزة التنفس الاصطناعي أزمة عالمية، عمدت بعض الحكومات الأوروبية، مبكراً، إلى اتباع تكتيكات لحشد إمكانياتها الصناعية بما يتيح لمصانعها إنتاج المزيد من أجهزة التنفس الاصطناعي، ومن بين هذه التكتيكات حظر تصدير منتجات هذه المصانع.

وعلى النقيض من ذلك، تميز رد فعل الولايات المتحدة بالبطء، إذ لم توضع أي استراتيجية وطنية خاصة لتسريع إنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي. ويعود رد الفعل البطئ هذا، إلى تقليل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأعضاء في إدارته من شأن التهديدات الخطيرة لفيروس «كورونا المستجد» في بدايات الأزمة.

تسونامي من الطلبات:
ويقول أندرياس ويلاند، الرئيس التنفيذي لشركة «هاميلتون ميديكال» إحدى أكبر شركات تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي في العالم: «في الواقع لا يوجد ما يكفي من أجهزة التنفس الاصطناعي على الإطلاق.

نشهد ذلك اليوم في إيطاليا، وقد رأيناه في الصين، ونعاينه في فرنسا وإسبانيا وبلدان أخرى. ثمة طلب كبير على هذه الأجهزة، لكنني لا أعرف كيف يمكن تلبيته».

وتقوم «هاميلتون ميديكال» بشحن أجهزة التنفس الاصطناعي بأسرع ما يمكنها إلى عملائها اليوم.

وأمر ويلاند موظفي شركته من الإداريين بالنزول إلى أرض المصنع ومساعدة القائمين على خطوط الإنتاج، ووظف المزيد من العمال. ومع ذلك، لم يتمكن من مواكبة تسونامي طلبات الشراء. ويقول بهذا الصدد: «طلبت إيطاليا الحصول على 4000 جهاز تنفس اصطناعي، لكننا لم نستطع تأمين إلا زهاء 400 جهاز».

يتعمد فيروس «كورونا المستجد» مهاجمة رئتي مضيفه، فيضعف في بعض الحالات قدرته على التنفس. لذا، تعد أجهزة التنفس الاصطناعي، التي تعمل على تأمين وصول الهواء إلى الرئتين من خلال أنبوب يوضع في القصبة الهوائية، أداة حاسمة لإبقاء المصابين بالفيروس على قيد الحياة.

ويمكن لهذه الأجهزة الإلكترونية، التي توضع إلى جانب سرير الشخص المصاب بالفيروس، أن تُكلف حوالى 50 ألف دولار. وتمتلك المستشفيات في الولايات المتحدة زهاء 160 ألف جهاز تنفس اصطناعي، وثمة 12700 جهازاً احتياطياً آخر لدى «المخزون الاستراتيجي الوطني»، وهو مستودع للإمدادات الطبية خصصته الحكومة الفيدرالية للاستجابة لحالات الطوارئ الوطنية.

أسوأ السيناريوهات:
لكن هذه المخزونات لن تكون كافية إذا استمر الارتفاع الصاروخي في عدد حالات الإصابة بفيروس «كورونا المستجد». ويقول توماس فريدن، مدير «مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها» الأميركية الأسبق: «لو تحدثنا عن أسوأ السيناريوهات فسيكون من الصعب للغاية تأمين عدد كافٍ من أجهزة التنفس الاصطناعي».

ووفقا لتقديرات مؤسسة (ECRI)، وهي مجموعة مستقلة غير ربحية تُعنى بتقييم الأصول التكنولوجية الطبية، فإن أكثر من نصف أجهزة التنفس الاصطناعي المستخدمة في الولايات المتحدة تم تصنيعها لدى شركات من خارج البلاد، بما في ذلك أجهزة شركتي «دراغر» و«غيتينغي» الشهيرة.

وثمة زهاء عشر شركات أميركية فقط تقوم بتصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي، من بينها العملاقتين «جنرال إلكتريك» و«ميدترونيك»، حسبما يقول غريغ كريست المتحدث باسم «آفاميد»، المجموعة التجارية التي تمثل مصنعي الأجهزة الطبية الأميركية. وتعمل الشركات الأميركية هذه، على دفع وتسريع وتيرة إنتاج تلك الأجهزة الحيوية منذ وقت قصير.

لكن هندسة هذه الآلات شديدة التعقيد. ذلك أنها تتكون من مئات القطع والأجزاء الصغيرة والدقيقة التي تنتجها شركات منتشرة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي لا توجد طريقة سحرية لزيادة الإنتاج بشكل كبير وسريع.

ويقول الرئيس التنفيذي لمؤسسة (ECRI) ماركوس شاباكير،: «أجهزة التنفس الاصطناعي تخضع لقانون سلسلة التوريد العالمية، سواء أحببنا ذلك أم لا. لذا فإن كل من يصنع أجهزة التنفس الاصطناعي هنا أو في أي مكان آخر سيبحث عن أجزاء معينة، غالبا ما تأتي من نفس الموردين المتخصصين. الأمر شبيه بتأثير الدومينو المتعاقب».

من جهته يعتقد الرئيس التنفيذي لـ«ألايد هيلثكير بروداكدتس» إيرل ريفسلاند،، وهي شركة تُصنع أجهزة تنفس اصطناعي صغيرة في سانت لويس، أن تكثيف إنتاج الأجهزة خلال وقت قصير ليس ممكنا. ذلك أن شركته، التي تصنع زهاء 1000 أجهزة تنفس سنويا، تحتاج إلى ثمانية أشهر على الأقل لزيادة إنتاجها بشكل حاد. ويضيف ريفسلاند: «هذه الأجهزة مصممة لإبقاء الناس على قيد الحياة. نحن لا نصنع دراجات هوائية هنا، من الطبيعي أن يستغرق الأمر بعض الوقت».

ارتفاع الطلب على الأجهزة:
وما زاد الطين بلة، تزامن ارتفاع الطلب على أجهزة التنفس الاصطناعي، مع اتخاذ الحكومات عبر أنحاء العالم تدابير لإجبار مواطنيها على البقاء في منازلهم لإبطاء انتشار فيروس «كورونا المستجد»، ما ألقى مزيداً من التعقيد على عملية انتقال العمالة إلى المصانع.

ولتأمين ظروف العمل الصحية لدى خطوط إنتاجها، باتت الشركات المنتجة لأجهزة التنفس الاصطناعي مضطرة إلى شراء مستلزمات واقية لعمالها وتخصيص ميزانيات ليست بالقليلة لخدمات التطهير والتعقيم.

تمكن «مستشفى جامعة جونز هوبكنز» من شراء بعض أجهزة التنفس الاصطناعي الجديدة قبل بضعة أسابيع، بعدما استشعرت الإدارة العليا للجامعة خطورة التفشي العالمي لوباء «كورونا المستجد». لكن إدارة «مستشفى بالتيمور»، التي تأخرت في اتخاذ قرار مماثل، تكافح اليوم لشراء مزيد من هذه الأجهزة.

وتبحث إدارة «مستشفى جامعة جونز هوبكنز» إمكانية تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي الخاصة بالمستشفى بالتعاون مع قسم الهندسة في الجامعة، وهو خيار يصفه غابي كيلين، مدير «مكتب جونز هوبكنز للتأهب للأحداث الحرجة»، بأنه «يذهب إلى أبعد مدى، نظرا لأننا لم نصنع آلة معقدة مثل هذه الأجهزة من قبل».

ويتم كذلك عقد سلسلة من الاجتماعات مع مجموعة من الأطباء ومتخصصين في الأخلاقيات المهنية الطبية، لمعرفة كيفية تقنين استخدام أجهزة التنفس الاصطناعي في ما لو تجاوز عدد المرضى الطاقة التصميمية لعمل هذه الأجهزة.

فمن دون إمدادات كافية لأجهزة التنفس الاصطناعي، قد يجد الأطباء أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ قرارات صعبة تتعلق بتحديد الأشخاص الذين سيُمنحون أولوية استخدام هذه الأجهزة.

وقف التصدير:
وبوصفها المركز الرئيس لتفشي فيروس «كورونا المستجد»، امتصت الصين كل ما في جعبة سوق أجهزة التنفس الاصطناعي. وعندما انتشر المرض في كوريا الجنوبية وإيطاليا، تقدمت مستشفيات تلك البلدان بطلبات لشراء هذه الأجهزة تلتها دول أخرى، ما أدى إلى إغراق المصانع في بحر متلاطم من طلبات الشراء. وبحسب الشركات المصنعة، فإن الولايات المتحدة تقف اليوم مؤخرة الطابور جراء تأخر رد فعلها.

ويقول الرئيس التنفيذي لـ«فينتيك» كريس كيبل، وهي شركة صغيرة تنتج أجهزة التنفس الاصطناعي بالقرب من سياتل، إن شركته تلقت مؤخراً طلباً لتصدير 150 جهاز تنفس اصطناعي إلى اليابان. ويوضح كيبل أن شركته سارعت إلى تكثيف عمليات الإنتاج، ووظفت مزيدا من العمال وزادت ساعات العمل.

 ولمنع تفشي فيروس «كورونا المستجد» بين موظفيها، تجري «فينتيك» فحوصات إلزامية لدرجة حرارة كل من يعبر بوابة مصنعها، فيما يجتهد عمال النظافة على مدار 24 ساعة لتعقيم الأسطح والممرات. ولكن حتى مع زيادة الإنتاج، يوضح كيبل، لن نتمكن من تلبية الطلب المتنامي على منتجاتنا.

ويؤكد الرئيس التنفيذي لـ«فينتيك»، أنه منذ أيام عدة وهو يتلقى مكالمات هاتفية ملحة من لدن مديري المستشفيات ومكاتب حكام الولايات ومسؤولين حكوميين آخرين الذين يبحثون عن أي كمية من أجهزة التنفس الاصطناعي.

حتى أنه بدأ في تلقي استفسارات من لدن عدد من الأثرياء الراغبين في شراء أجهزة تنفس اصطناعي شخصية خاصة بهم، تحسباً لانهيار النظام الاستشفائي الأميركي. ويضيف كيبل «يمكنني التأكيد أن كل مصانع أجهزة التنفس الاصطناعي حول العالم تواجه مشكلة العجز عن تلبية طلبات الشراء في الوقت الحالي».

استجابت الدول الأوروبية، التي تئن اليوم بالفعل تحت ضغط عشرات الآلاف من المرضى المصابين بفيروس «كورونا المستجد»، بقوة وبسرعة على تحدي الوباء.

فقد منعت بعض الحكومات الأوروبية شركاتها الوطنية المتخصصة في تصنيع المعدات الطبية من تنفيذ تعاقدات التصدير الخارجية. ففي ألمانيا، حيث يتوفر زهاء 25 ألف جهاز تنفس اصطناعي في جميع أنحاء البلاد، طلبت برلين من شركة «دراغر» تصنيع 10 آلاف جهاز جديد. وقالت الشركة، التي ارتفعت قيمة أسهمها أكثر من 50 بالمئة الأسبوع الماضي، إنها تتعجل في تلبية الطلبات، لكنها تواجه قيودا تتعلق باختبارات السلامة وتوافر المكونات.

وتواجه إيطاليا، التي تمتلك رصيداً ضخماً من حالات الإصابة المؤكدة بفيروس «كورونا المستجد»، نقصا كبيرا في أجهزة التنفس الاصطناعي. وذكرت وسائل الإعلام المحلية أن المسؤولين في شمال شرق منطقة فينيتو، يبحثون في إمكانية استخدام أجهزة التنفس الاصطناعي المصممة للحيوانات على البشر.

وقد أرسلت الحكومة الإيطالية زهاء 25 مهندسا بمعية موظفين آخرين من وزارة الدفاع لمساعدة «سياري إنجينيرينغ»، وهي شركة صناعية بالقرب من بولونيا، في إنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي.

وقد أخرت الشركة، التي قامت برفع إنتاجها أربعة أضعاف ليصل إلى 150 جهازاً في الأسبوع، عمليات التصدير إلى دول أخرى مثل الهند، لتلبية الطلب الداخلي في إيطاليا. ويقول إنريكو توزي، المسؤول عن قسم التصدير في «سياري إنجينيرينغ»: «بلادنا في حاجة ملحة لأجهزتنا. نحن في حالة طوارئ كاملة».

وفي بريطانيا، حيث تشير تقديرات أولية إلى حاجة البلاد الماسة لأكثر بكثير من الـ5000 جهاز تنفس اصطناعي التي تمتلكها مستشفياتها، دعا رئيس وزرائها بوريس جونسون، الذي أصابه فيروس «كورونا المستجد»، شركات صناعة السيارات وغيرها من الشركات الصناعية إلى البدء فوراً بالمساهمة في صنع أجهزة التنفس الاصطناعي. وقالت لندن إنها تلقت أكثر من 400 اتصال من شركات عرضت المساعدة لتصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي.

وعلى الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي، اتخذت الإدارة الأميركية إجراءات متطرفة لحل هذه المعضلة. فقد فعّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس «قانون الإنتاج الدفاعي» لإجبار شركة «جنرال موتورز» على إنتاج المزيد من أجهزة التنفس الاصطناعي.

وقال بيان صادر عن البيت الأبيض: «لقد كانت مفاوضاتنا مع جنرال موتورز بشأن قدرتها على توريد أجهزة التنفس الاصطناعي مثمرة، لكن معركتنا ضد الفيروس ملحة للغاية بحيث لا تسمح عملية الشد والجذب بمواصلة عملية التعاقد سيرها الطبيعي».

وأضاف البيان أن «جنرال موتورز» كانت تضيع الوقت، لكن الإجراءات المتخذة «ستساعد على ضمان الإنتاج السريع لأجهزة التنفس الاصطناعي التي ستنقذ حياة الأميركيين».

وأشار بيان رئاسي في وقت لاحق إلى أن ترامب وجّه وزير الصحة والخدمات الإنسانية أليكس عازار، باستخدام أي سلطات بموجب اتفاقية حماية البيانات لمطالبة جنرال موتورز «بقبول، وتنفيذ، وتحديد أولويات العقود الفيدرالية لأجهزة التنفس».

وأوضح ترامب في تغريدة عبر «تويتر»: «قالوا إنهم سيعطوننا 40 ألف جهاز تنفس اصطناعي بسرعة كبيرة. والآن يقولون إنهم سيصلون إلى 6 آلاف فقط في أواخر أبريل»، واصفا ذلك بأنه فوضوي.

ويقول بعض الصناعيين الأميركيين إنهم ناقشوا مؤخرا مسألة الإنتاج مع أعضاء فرقة العمل المعنية بفيروس «كورونا المستجد» في البيت الأبيض بمعية مسؤولين من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية. لكن، وبالنظر إلى حجم الولايات المتحدة، فإن المشكلة أكثر تعقيدا من الأرقام المتاحة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لأجهزة التنفس الاصطناعي غير المستخدمة في ديترويت أن تخفف الضغط عن مثيلاتها لدى مستشفى غارق بالمصابين في دالاس.

ويقول رئيس جمعية طب الرعاية الحرجة وأستاذ الطب في إيموري بجامعة أتلانتا الدكتور غريغ مارتن،: «قد يكون لديك موارد أكثر مما تحتاجه في جميع أنحاء البلاد، لكنك تواجه تشظياً في عملية الانتشار الجغرافي للمصابين بما يتجاوز قدرة الاحتواء المحلية».

ويقول الخبراء إن ثمة مسألة مهمة أخرى تطرح نفسها في ما يتعلق بأجهزة التنفس الاصطناعي، ألا وهي إيجاد عدد كافٍ من الأشخاص المدربين لتشغيل هذه الأجهزة.

ويقول مارتن إنه في ظل الظروف العادية، يتلقى العاملون في المراكز الطبية سنوات من التدريب قبل أن يُعهد إليهم بتشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي، التي قد يتسبب خطأ بسيط في تشغيلها، بعبور الخط الأحمر الفاصل بين الحياة أو الموت.
 

الأكثر مشاركة