حلف «الناتو» يكون في أفضل أحواله عندما لا يفعل شيئاً
«الناتو» حلف يكون في وضعه الأفضل عندما لا يفعل أي شيء، وينبغي أن يبقى على هذه الحال، لكن عندما يحاول القيام بأي شيء، فإنه يسبب سلسلة غير متناهية من الكوارث. وعندما يتشدق الحلف بأنه «التحالف الأكثر نجاحاً في التاريخ»، لأنه تمكن من ردع الاتحاد السوفييتي من الهجوم على أوروبا الغربية، وعدم خوض حرب في هذه المنطقة، وهذا صحيح، فإنه يغطي على حقيقة تاريخيه أخرى نسيها.
وتتجلى هذه الحقيقة في أنه خلال نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي، قرر كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بصورة مستقلة، أنهما لن يعملا على توسيع أنظمتهما السياسية وتحالفاتهما في أوروبا، باستخدام القوى العسكرية أو التهديد بها، وذلك لسبب واضح يتجلى في أن أي تحرك في هذا المجال من شأنه أن يؤدي إلى حرب نووية كارثية. وهذا أمر نحن بحاجة ماسة لكي نتذكره، في الوقت الذي يحاول حلف «الناتو» إثارة غضب روسيا في أوكرانيا.
ولهذا، وقبل تقديم ما سمي في حينه «عقيدة ترومان» التي تجلت في دعم الولايات المتحدة لليونان وتركيا عام 1947، وقبل ثلاث سنوات من تشكيل الحلف، كان رئيس الاتحاد السوفييتي، جوزيف ستالين، قد قرر عدم دعم اليونان الشيوعية في الحرب الأهلية الدائرة هناك، وإضافة إلى ذلك مارس ضغوطاً على حكومة يوغسلافيا الشيوعية كي لا تقدم الدعم لليونان، ما أدى إلى انفصال يوغسلافيا عن الاتحاد السوفييتي.
مشروع «غرفة الشمس»
وبعد مرور ست سنوات على ذلك، وعندما وصل الرئيس، دوايت أيزنهاور، إلى البيت الأبيض أمر بإجراء «مشروع سولاريوم»، الذي حمل هذا الاسم لأن الاتفاق عليه تم بغرفة الشمس في البيت الأبيض، وهو سيناريو تم تنفيذه، وكان يقصد به إقناع قادة الحزب الجمهوري المتشددين، بمن فيهم وزير الخارجية الأميركي السابق، جون فوستر دالاس، بأن خططهم التي تهدف إلى خفض نفوذ الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية، كان تنفيذها يتسم بالخطورة، وإنهم قبلوا بها على مضض، واستناداً لذلك رفض الحلف دعم الشعب الهنغاري الذي ثار ضد سيطرة الحكم الشيوعي عام 1956.
وخلال الحرب الباردة التي تلت ثورة الشعب الهنغاري، والتي استمرت 36 عاماً، لم تتغير حدود دول حلف «الناتو» وحلف «وارسو»، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي من الداخل، نتيجة حالة القمع والعبثية التي كانت سائدة في دوله، ولم يحاول حلف «الناتو» أن يفوز على النمسا وفنلندا، وهما دولتان رأسماليتان ديمقراطيتان كانتا تتبنيان الحيادية رسمياً عن معسكرَي الحرب الباردة، ولم يحاول الشعب الفنلندي، من جهته، تغيير الوضع الذي كان يعيشه، ليس بسبب خطورة ذلك، وإنما لأن الحيادية لم تكن تسبّب لهم أي أذى.
البقاء خلف الأسوار
ولم يتعين على دول الغرب الرأسمالية والديمقراطية القيام بأي شيء على الإطلاق، فقد تمكنت من البقاء خلف أسوار القوة العسكرية لحلف «الناتو»، وعندما خاطب رئيس الاتحاد السوفييتي، نيكتا خروشوف، دول الغرب قائلاً «إننا سندفنكم»، لم يكن يقصد أن الاتحاد السوفييتي سيدمر العالم الغربي، وإنما كان يقصد أننا كعالم غربي سنموت من تلقاء أنفسنا نتيجة الفشل الفطري للرأسمالية، وأن الاتحاد السوفييتي سيبقى نتيجة قوته الفطرية، واتضح لاحقاً أن ما حدث هو العكس، لكن من دون أعمال قتل مطلقاً.
وانطلاقاً من هذه النقطة، لم يفز العالم الغربي بالحرب الباردة في الفترة بين 1989 و1991. وإنما في عام 1956 عندما ثار الشعب الهنغاري ضد الشيوعية، وفي عام 1961 عندما اعترفت ألمانيا الشرقية الشيوعية بأن الطريقة الوحيدة لوقف عملية هروب سكانها إلى الحياة الأفضل في ألمانيا الغربية هي بناء جدار ضخم يمنع سكانها من الهرب، ومنذ تلك اللحظة أصبحت الكتلة السوفيتية، كنموذج أيديولوجي في أوروبا، ميتة.
وأما في ما يتعلق بواشنطن، فإن فيتنام وأنغولا وأفغانستان، وأماكن أخرى، لم تكن بتلك الأهمية بالنسبة لها، وإنما كان يهمها المراكز الاقتصادية الكبيرة في أوروبا الغربية، وشرق آسيا، وهي الدول التي تجعل الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بحرب نووية ضدها، أما بالنسبة لموسكو فإن المصالح الحيوية كانت في أوروبا الشرقية، وعلى حدود الاتحاد السوفييتي نفسه، وبناء عليه عند معرفة أي طرف للمصالح الحيوية للطرف الأخر فإنه لن يقوم بإظهار التحدي لتلك المصالح.
تدريبات في القتال الجسدي
وبناء عليه فإن الحرب الباردة في أوروبا كانت عبارة عن تدريبات في القتال الجسدي، وإن كان هذا التشبيه غير واقعي بالنظر إلى حجم القوات العسكرية التي كان يحشدها كل طرف ضد الآخر، إضافة إلى فيض الخطابات العدوانية المتبادلة بين الطرفين، وكان الخوف بين الطرفين حقيقياً على الرغم من القدرات الكبيرة التي كانت تحشدها جيوش الطرفين، ووفق ما قاله العقيد الروسي، أولغ غوردفسكي، الهارب من حلف المخابرات السرية السوفيتية (كي جي بي) إثر وصول الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، إلى السلطة، فقد اعتقدت القيادة السوفييتية بصورة حقيقية في بداية ثمانينات القرن الماضي أن الغرب يخطط لشن حرب نووية وقائية، لكن ذلك لم يكن يعني أن هذا الاعتقاد كان يستند إلى حقيقة.
وفي الأماكن الأخرى، كانت معاناة الفيتناميين، والكمبوديين، والأفغان، والإثيوبيين، والغواتيماليين، في ظل الحروب بالوكالة التي كانت تجري بين المعسكرين، حقيقية ومخيفة. لكن لم يشارك حلف «الناتو»، ولا الدول المشاركة فيها (باستثناء فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة) في هذه الحروب، لأن مشاركتها كان يمكن أن تجعل مجتمعاتها تقوم باحتجاجات قوية، وبناء عليه فإنه على الرغم من أن وجود حلف «الناتو» ساعد على ردع أي عدوان سوفييتي، إلا أن الحلف لم يفعل أي شيء في الواقع.
وبدأ الدور الكارثي للحلف في القضايا الدولية مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، إذ إن ذلك أعطاه الفرصة للقيام بشيء ما، كما أن الخوف من إلغاء الحلف منحه الدافع لذلك، وتفاقمت هذه المخاوف من قبل الأوروبيين بشأن فقدان الحماية الأميركية، إضافة إلى القلق من أن ضباط «الناتو» وموظفيه يمكن أن يخسروا وظائفهم.
عدو بلا داعٍ
وكانت النتائج السلبية مضاعفة، فقد تحولت روسيا مرة أخرى، ودون داعٍ، إلى عدو. وتعزز إيمان أميركا في مهمتها لجلب الحرية إلى العالم، وتشجع الأوروبيون على الانغماس في اللامسؤولية الاستراتيجية تحت العباءة الأمنية الأميركية، على حساب دافع الضرائب الأميركي.
الحلف ليس جاهزاً للحرب
ومع ذلك فإن حلف «الناتو» لايزال غير مهيأ للانخراط في حرب حقيقية، ولخص لي أحد الأصدقاء العاملين في الجيش الأميركي بصورة جميلة، دور حلف حلف «الناتو» في أفغانستان، عندما قال: «تظاهرنا بأننا استمعنا لهم، وهم تظاهروا بأنهم يقاتلون (أي الأعضاء الأوروبيون في الحلف)، على الرغم من أنه استثنى التضحيات الحقيقية التي قام بها الجيش البريطاني.
وفي ما يتعلق بحلف «الناتو» كقوة لمحاربة روسيا، حدثني موظف سابق في طاقم الأمين العام السابق لـ«الناتو»، جاب هوب شيفر، خلال جهود الأمانة العامة، المدفوعة من واشنطن، لإدراج جورجيا وأوكرانيا في الحلف في الفترة بين 2007 و2008، وعندما سألته عن خطط الطوارئ التي وضعها موظفو الحلف بشأن احتمال وقوع حرب بين جورجيا وروسيا، حول المناطق الانفصالية في جورجيا، فأجابني: «ليس هناك أي خطط»، وعندما أعربت عن دهشتي أضاف: «أنت لا تفهم الوضع، إذ إن فكرة توسع حلف (الناتو) برمتها تم ترويجها للناخبين الأوروبيين، مقرونة بوعود أنه لن يتعين عليهم الحرب من أجل حماية هاتين الدولتين».
وربما حلف تقوده قيادة مروعة وفاشلة كهذه لايزال يستحق الوجود، كضمان متبقٍّ للأمن في غرب أوروبا ووسطها، ومصالح الولايات المتحدة في هذه المناطق، وإن كان ذلك بوجود أميركي أقل، يجب أن تكون مسؤولية الأمن الأوروبي على كاهل الأوروبيين أنفسهم. ولكي يتمكن حلف «الناتو» من القيام بهذا الدور الأساسي، كل ما يتعين عليه القيام به هو ما كان يفعله خلال الحرب الباردة، ألا يفعل شيئاً. ونحن ربما نكون على يقين من أنه من دون واشنطن التي تنقذهم من العواقب، فإن حتى أكثر الأعضاء الأوروبيين توسعاً في الحلف سيكونون سعداء للغاية بعدم قيامهم بأي شيء.
• بدأ الدور الكارثي لحلف «الناتو» في القضايا الدولية مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، إذ إن ذلك أعطى حلف «الناتو» الفرصة للقيام بشيء ما، كما أن الخوف من إلغاء المنظمة منحها الدافع لذلك، وتفاقمت هذه المخاوف من قبل الأوروبيين بشأن فقدان الحماية الأميركية، إضافة إلى القلق من أن ضباط «الناتو» وموظفيه يمكن أن يخسروا وظائفهم.
أناتول ليفين - كاتب بريطاني حائز جائزة «جورج أوريل».