طرقات متعبة وشوارع مظلمة ومشروعات معلقة

بيروت نموذج عن لبنان الغارق في العجز

صورة

حتى إشعار آخر، ستبقى أعمدة الإنارة في بيروت مطفأة ومشروعات الترميم معلقة، والحفر تغزو الطرق. فلم تعد بلدية العاصمة ذات الموازنة الأكبر في البلاد بين البلديات تجذب المتعهدين مع استمرار دفع تكاليف المشروعات بالليرة اللبنانية فاقدة القيمة.

ويقول مسؤول في البلدية، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لوكالة فرانس برس: «ما من متعهد يريد العمل مع البلدية».

ليلاً، تغرق شوارع بيروت في الظلام جراء تقنين قاسٍ تفرضه مؤسسة كهرباء لبنان من جهة، وأعمدة إنارة وأضواء أنفاق تلفظ أنفاسها الأخيرة في انتظار صيانتها من جهة ثانية.

تمرّ السيارات بصعوبة بين حفر في بعض الطرق. وعند كل تقاطع، يحاول السائقون تفادي التعرّض لحادث بسبب إشارات ضوئية مطفأة أو محطّمة.

ومنذ نحو عام ونصف العام، لم تتجدد عقود صيانة الإنارة والطرقات وإشارات السير.

وأعلنت بلدية بيروت عن مناقصة لتلزيم مشروع صيانة إنارة شوارع وأنفاق بيروت، لكن خلال اجتماعين عقدا الشهر الماضي لتلقي العروض، لم يحضر أحد.

ويعاني لبنان منذ عقود أساساً مشكلة متفاقمة في قطاع الكهرباء ذي المعامل المتداعية، ومن ساعات تقنين طويلة تتخطى 12 ساعة في بعض الأحيان.

وتدين بلدية بيروت اليوم بـ27 مليار ليرة تراكمت على مرّ 15 عاماً لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، وفق المسؤول في البلدية.

ومنذ صيف عام 2019، على وقع الانهيار الاقتصادي الأسوأ في لبنان، بدأت الليرة تتراجع تدريجياً أمام الدولار وسط أزمة سيولة حادة. ويلامس سعر الصرف في السوق السوداء اليوم 12 ألفاً للدولار. أما سعر الصرف الرسمي فلايزال مثبتاً على 1507 ليرات.

وبالتالي، لم تعد التلزيمات مربحة وسط عدم القدرة على استيراد مواد أولية يحتاجها المتعهدون بالدولار، وعدم قدرة البلدية على الدفع إلا بالعملة المحلية.

ويقول المسؤول: «إذا أردنا تلزيم مشروعات لهذا العام»، بحسب سعر الصرف الذي يريده المقاولون، «فلن تبقى أموال في الخزينة».

أزمة نفايات

في مناطق تضررت من انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس، الذي تسبّب في مقتل أكثر من 200 شخص وبدمار هائل في الأحياء القريبة، تبقى حركة الترميم بطيئة، في ظل أعمال يقوم بها بضعة متعهدين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.

ولم تتمكن البلدية التي وقعت عليها مهمة تلزيم مشروعات تدعيم البنى المتضررة، من إتمام المهمة.

ويقول المسؤول: «قسمنا المباني المتضررة إلى 15 مجموعة، نجحنا في تلزيم أربع مجموعات فقط».

ورغم إعلان المناقصة مرات عدة، لم يبد أحد اهتماماً بالمجموعات الأخرى. أما الشركات العاملة حالياً فبدأت تشتكي كون العقد الذي وقعه كل منها بقيمة ملياري ليرة، جرى حين كان سعر الصرف 6000.

على صعيد آخر، تبدو أزمة نفايات جديدة حاصلة حتماً ما لم تتمكن البلدية من إيجاد حل مع شركة «رامكو» المتعهدة بإزالة النفايات.

ويقول المسؤول «لايزال العقد سارياً مع الشركة، لكنها بين الحين والآخر تُهدد بالاضراب وتعليق العمل، لأنها تريد تعديل السعر».

وكانت قيمة العقد بالليرة اللبنانية تعادل 14 مليون دولار سنوياً، بحسب ما يقول رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، لـ«فرانس برس»، لكنها تبلغ اليوم نحو مليوني دولار، وفق سعر السوق السوداء.

في شوارع بيروت التي تشهد منذ أشهر طويلة احتجاجات شعبية متقطعة على الوضع المعيشي تركت آثارها على إسفلت المدينة، حيث تحرق بين الحين والآخر إطارات، وعلى جدرانها حيث تكتب شعارات تشتم المسؤولين وتطالب بتنحّيهم، يبدو الناس منصرفين الى أعمالهم.. وهمومهم.

ويقول أحمد (32 عاماً)، وهو سائق حافلة نقل ركاب صغيرة: «الحفر في وسط بيروت، خصوصاً التي خلفها حرق الإطارات، وحدها كافية، في كل مرة نمر فوقها يزداد وضع العربة سوءاً، ولا أستطيع إصلاحها إلا وفق سعر صرف السوق». ويضيف «تعادل كلفة إصلاحها تعب 15 يوم عمل». ولم تجد مناقصة صيانة الطرق والأرصفة من يتلزمها حتى الآن. في أحد شوارع منطقة الحمرا، يشهد تقاطع رئيس بين الحين والآخر حادث سير، فيما إشارة السير مكسورة منذ أشهر، ونادراً ما تعمل.

وكانت هيئة إدارة السير تستخدم مدخولها من عدادات مواقف السيارات في بيروت لتمويل صيانة إشارات السير ونفقاتها، فيما تحصل البلدية بالمبدأ على جزء من العائدات.

وأثار إعلان البلدية عام 2019 أنّها لم تتلقّ أي مبلغ من العائدات، تساؤلات عدّة. وخلال التحركات الشعبية المناهضة للسلطة، تعرَض عدد من العدادات للتخريب على أيدي محتجين غاضبين إثر تقارير إعلامية عن شبهات فساد في الملف. ومنذ ذاك الحين، توقّفت أيضاً صيانة إشارات السير.

وتضاف إلى المشهد ظاهرة تشهدها بيروت منذ فترة تتمثل بسرقة أغطية الصرف الصحي من شوارعها، وحتى كابلات الكهرباء والقساطل المعدنية. ويرجح أن السارقين يبيعون هذه القطع بعد ارتفاع أسعار الحديد بشكل كبير.

وعن تراجع عدد المقاولين، يقول نقيب المهندسين، جاد ثابت، لفرانس برس إن السبب «بسيط جداً، وهو البلدية».

ويضيف «الشركات الخاصة بشكل عام لا تريد العمل مع أي مؤسسة رسمية، لأن الالتزامات بالليرة، ولا أحد يريد أن يأخذ تلزيمات بالليرة»، مشيراً إلى مناقصات عدة أطلقتها وزارة الأشغال «من دون أن يتقدّم أحد». ويوضح «لا يريد الناس الدخول في مشروعات خاسرة».

لا رخص بناء

وتُعد بلدية بيروت أغنى بلديات لبنان، لكن تبقى اليوم من ميزانيتها نحو 800 مليار ليرة، أي 64 مليون دولار فقط، بحسب سعر صرف السوق حالياً.

وتبلغ نفقاتها الثابتة 300 مليار ليرة سنوياً تصرف على الرواتب وخدمات الاستشفاء للموظفين وخدمات تشغيلية وإدارة مشروعات وغيرها، فيما «تدنت الواردات بشكل كبير». فمنذ انفجار المرفأ «لم تجن البلدية إلا مبلغاً يرواح بين 70 و100 مليار ليرة، بينما يفترض بها أن تجني من ضرائب ورخص بناء ورسوم أكثر من 300 مليار سنوياً»، وفق المسؤول الذي يضيف «العجز المالي يزداد».

وعلى وقع الانهيار الاقتصادي المتمادي، خسرت البلدية أحد أبرز مصادر وارداتها: رخص قطاع البناء التي تراجعت بمعدلات قياسية.

ويوضح المسؤول «لم نمنح في عام 2020 سوى أربع رخص بناء فقط» مقابل العشرات سابقاً.

وبغض النظر عن مشروعات الاستثمار والخدمات، تاريخ بيروت مفعم بمشروعات غير مكتملة، ما جعل البعض ينظر إليها كأحد نماذج الفساد في البلاد.

فحتى قبل الأزمة، لم يكن تلزيم المشروعات يمر من دون مناورات. ويقول مصدر مطلع على عمل البلدية «دفتر شروط المناقصة كان يُعد على حسب المتعهد» الذي يُراد العمل معه، وبالتالي تكون النتيجة محسومة سلفاً.

ويقول نقيب المهندسين بدوره «منذ ما قبل الأزمة، والبلدية غير فاعلة»، مشيراً إلى مشروعات عدة تمت دراستها ومنها ما كان ممولاً من الخارج إلا أنه «لم ينفذ شيء منها».

إلا أن جمال عيتاني يعيد عدم تنفيذ المشروعات بشكل أساسي إلى «بيروقراطية متعبة»، ثم انخفاض قيمة الليرة. ويقول: «ثمّة عجز عن استكمال مشروعات كانت أساساً قيد التنفيذ».

كئيبة ومظلمة

حوّل ذلك كلّه بيروت التي كانت مفعمة بالحياة، الى مدينة منهكة و«حزينة»، كما تقول أليسار بودرغم (49 عاماً) في محل بيع حقائب صغير في شارع الحمرا. تنتظر أليسار ساعات طويلة أن يطل عليها ولو زبون واحد من دون جدوى. وتضيف «الجميع يتحمل المسؤولية من الناس إلى البلدية فالوزراء والنواب».

عند تقاطع شارع رئيس، تنتظر صديقتان داخل سيارة أن تجدا السبيل للمرور، فيما إشارة السيرة مطفأة. وتقول إحداهن: «طبعاً ما من إشارة سير»، فتجيبها الثانية «ما من بلد». ويقول المسؤول في البلدية: «اذا بقي الوضع على حاله.. فالبلدية حتماً في طريقها إلى الإفلاس، كما هو وضع البلد».

• ليلاً، تغرق شوارع بيروت في الظلام جراء تقنين قاسٍ تفرضه مؤسسة كهرباء لبنان من جهة، وأعمدة إنارة وأضواء أنفاق تلفظ أنفاسها الأخيرة في انتظار صيانتها من جهة ثانية.

• في شوارع بيروت التي تشهد منذ أشهر طويلة احتجاجات شعبية متقطعة على الوضع المعيشي تركت آثارها على إسفلت المدينة، حيث تحرق بين الحين والآخر إطارات، وعلى جدرانها حيث تكتب شعارات تطالب بتنحية المسؤولين، يبدو الناس منصرفين الى أعمالهم.. وهمومهم.

تويتر