رفض دعوات التعويض عن الحقبة الاستعمارية.. وتصريحاته وصفت بـ «الجهل التاريخي المذهل»

مرشح لزعامة «المحافظين البريطاني»: مستعمراتنا السابقة في إفريقيا و«الكاريبي» مدينة بـ «الامتنان»

روبرت جينريك عمل مراراً وتكراراً على تهميش المجتمعات الإفريقية والكاريبية. رويترز

ربما يجسد المرشح لزعامة حزب المحافظين البريطاني، روبرت جينريك، ميل الحزب إلى المرشحين الذين يفتقرون إلى التألق و«الكاريزما»، لكن سعيه الدؤوب للحصول على التقدير، بلغ مستوى منخفضاً جديداً الأسبوع الماضي.

وقد عمل جينريك، مراراً وتكراراً على تهميش المجتمعات الإفريقية والكاريبية، ما يدل على أن فضيحة «ويندراش» (فضيحة سياسية بريطانية عام 2018 تتعلق بأشخاص احتُجزوا خطأً، وحُرموا الحقوق القانونية، وهُددوا بالترحيل، وكشفت عن أن 83 حالة على الأقل تم ترحيلها خطأً)، كانت مجرد مثال واحد على «البيئة العدائية»، التي أصبحت تحدد سياسات المحافظين.

ووصف البعض تعليقات جينريك الأخيرة الرافضة للدعوات إلى التعويضات عن الحقبة الاستعمارية في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي، بـ«الجهل التاريخي المذهل» من مؤرخ تخرج في جامعة كامبريدج عن إرث الإمبراطورية.

امتنان

ففي مقال بصحيفة الـ«ديلي ميل»، اقترح جينريك أن المستعمرات السابقة يجب أن تشعر بالامتنان لـ«ميراث» المؤسسات القانونية والديمقراطية البريطانية التي حظيت به، متجاهلاً الآليات الاستعمارية التي حافظت على الهيمنة البريطانية.

وبحسب جينريك، فإن هذه المجتمعات المستعمَرة، التي يصفها بـ«البدائية»، ينبغي لها أن تكون ممتنة للتدخل البريطاني، مدعياً: «لقد كسرت الإمبراطورية البريطانية السلسلة الطويلة من الطغيان العنيف، عندما بدأنا بتقديم القيم المسيحية تدريجياً وبشكل كامل».

وهذا يرقى إلى المراجعة التاريخية، ويبدو أن جينريك يعتقد أن بريطانيا واجهت أشكالاً سابقة من «الطغيان» في منطقة البحر الكاريبي وإفريقيا، وأن الحكم الاستعماري البريطاني جلب الحضارة.

إن وجهة نظره تتعارض بشكل مقلق مع حقائق الاستغلال الاستعماري وإرث العبودية عبر الأطلسي.

ويصرّ جينريك: «أنا لست خجلاً من تاريخنا، لأن المستعمرات السابقة مدينة لنا بالامتنان».

كما حذّر إريك ويليامز، أول رئيس وزراء لترينيداد وتوباغو، في كتابه «الرأسمالية والعبودية»، من السعي إلى إعادة كتابة التاريخ. وتعكس تصريحات جينريك مثل هذه المحاولة، وهي إعادة صياغة «معيبة» إلى حد كبير للمشروع «الفاسد» الذي كانت تمثله الإمبراطورية البريطانية.

وبعيداً في ما يصفونه بأنه هبة خيرية، فقد فُرِض هذا «الميراث» على مجتمعات كانت مضطربة ومضطهدة ومحرومة الحكم الذاتي بشكل منهجي. وزرعت الإدارات الاستعمارية، لاسيما في منطقة البحر الكاريبي، أنظمة قانونية وهياكل اقتصادية تخدم مصالح بريطانيا، ما أتاح استخراج الثروة والموارد على نحو مستدام.

أساس الفساد

لقد أرسى استغلال الحقبة الاستعمارية والتفاوتات البنيوية التي فرضتها، الأساس للفساد في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي.

وفي حين عملت مجتمعات الكاريبي الأصلية مثل التاينو والكاريب والأراواك على أنظمة طائفية إلى حد كبير، قام المستعمرون الأوروبيون بتفكيك هذه الشبكات، وفرضوا اقتصادات استخراجية تعتمد على العمل القسري وأنظمة المزارع الوحشية، ما أدى إلى الإبادة الجماعية لهؤلاء السكان الأصليين. ورسّخت تجارة الرقيق هذه الديناميكية، وأنشأت شبكات الرشوة والمحسوبية والاستغلال التي أصبحت مركزية للنموذج الاستعماري.

وقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على هذا الإرث السام، ما أدى إلى إنشاء أنظمة راسخة من الفساد التي ورثتها الدول ما بعد الحقبة الاستعمارية في وقت لاحق.

إن مثل هذه الممارسات تعكس النموذج الاستعماري الاستغلالي، حيث يتم التحكم في الاقتصادات من بعيد، واستخراج الموارد مع ترك الدولة المضيفة تتحمل العواقب الاجتماعية والبيئية. وهذه هي الدورة التي أدت إلى التبعيات الاقتصادية التي تبقي المستعمرات السابقة في مواقف من الضعف الدائم.

وقد ترك الاستعمار وراءه أطراً قانونية واقتصادية غارقة في الفساد وعدم المساواة.

إرث الإمبراطورية البريطانية

إن إرث الإمبراطورية البريطانية في منطقة البحر الكاريبي لا ينفصل عن أهوال تجارة الرقيق عبر الأطلسي، واقتصادات المزارع التي دعمتها الصناعات التي بنيت على استغلال ملايين الرجال والنساء والأطفال الأفارقة الذين اقتُلعوا قسراً من ديارهم.

ولم تكن التجارة هامشية للإمبراطورية، بل كانت قلبها النابض، الذي يغذي التصنيع البريطاني والهيمنة العالمية. وكانت الكلفة البشرية الكبيرة لهذا النظام، مثل الاقتلاع العنيف للأرواح، ومحو الثقافات، وإزالة الطابع الإنساني عن شعوب بأكملها، بمثابة وقود للآلة الاقتصادية البريطانية.

وعند وصولهم إلى منطقة البحر الكاريبي، تعرض الأفارقة المستعبدون لقسوة لا توصف في مزارع جزر الهند الغربية البريطانية. فقد أجبروا على العمل من الفجر إلى الغسق في حرارة شديدة، لحصاد قصب السكر والقهوة والتبغ.

فقد كانت المزارع الشاسعة مربحة للغاية، حيث كانت تنتج سلعاً للأسواق البريطانية والأوروبية. وبعد تجريدهم من إنسانيتهم، تعرض الأفارقة المستعبدون لعقوبات وحشية لأصغر المخالفات، دون أمل في حصولهم على الإغاثة.

لقد حُرموا هوياتهم، وتمزقت أسرهم، وقُوبِلت المقاومة بانتقام لا يرحم، وابتكرت السلطات الاستعمارية أنظمة مرعبة للسيطرة، كما سُحقت التمردات بالقوة العسكرية، وتعرض أولئك الذين تجرأوا على المقاومة للتعذيب والتشويه والإعدام. ويستخدم المزارعون البريطانيون العنف كوسيلة لضمان الإنتاجية وردع التمرد.

تجارة وحشية

وكانت التجارة في حد ذاتها وحشية، حيث كان البشر مكدسين بإحكام في هياكل سفن الرقيق البريطانية والأوروبية المظلمة، مقيدين ومتضورين جوعاً، في ظروف تسببت في هلاك العديد منهم قبل وصولهم إلى منطقة البحر الكاريبي. وكان فقدان هذه الأرواح مجرد خسائر في الميزانية العمومية، لكن في المقابل أصبح التجار البريطانيون أثرياء بشكل مذهل من هذا المشروع.

إن حجم المشاركة البريطانية في تجارة الرقيق عبر الأطلسي مذهل، حيث تم استعباد أكثر من 12 مليون إفريقي، وكانت بريطانيا مسؤولة عن اختطاف ما يقرب من 3.4 ملايين إفريقي، أكثر من أي دولة أخرى شاركت في التجارة بين عامي 1640 و1807، مع وفاة 450 ألفاً على طول الطريق.

ولم تعمل آلية نزع الإنسانية هذه في عزلة؛ إذ كانت متكاملة مع السياسة الاقتصادية البريطانية، وكانت أرباحها تبني المؤسسات والمنازل الفخمة وتدعم الصناعات وتمول الإمبراطورية. وازدهر هذا النموذج الغريب على الاستعباد، وهو واقع، لكن نادراً ما يعترف به القادة البريطانيون.

وقد جنت الطبقة الحاكمة ثمار هذا النظام ــ الثروة والهيبة والإمبراطورية ــ على نحو شبه حصري.

تعويضات كبيرة

وعندما ألغت بريطانيا العبودية في نهاية المطاف عام 1834، قدمت تعويضات كبيرة، ليس لأولئك الذين ظلمتهم خلال حقبة الاستعمار، بل للمستعبدين الذين حصلوا على 20 مليون جنيه إسترليني مقابل «ممتلكاتهم المفقودة»، وهو المبلغ الذي يعادل وفقاً لأحد المقاييس 17 مليار جنيه إسترليني اليوم.

ولم يتلقَّ المستعبَدون أي تعويضات عما لحق بهم من ظلم توارثته الأجيال أو عن الصدمات التي لحقت بهم.

إن قدرة بريطانيا على تعويض المستعبدين بينما تتجاهلهم تكشف عن النفاق الأخلاقي في قلب الإمبراطورية، لذا عندما يزعم الساسة اليوم أنه يجب تكريم إرث الإمبراطورية، فإن هذه ذاكرة انتقائية تشوّه التاريخ.

ولم يكن الاستعمار قوة خيرية، بل كان مشروعاً مدفوعاً بالجشع ومؤمناً بالعنف. إن «المؤسسات» الموروثة في منطقة البحر الكاريبي، هي جزء من البنية التحتية الاستعمارية الوحشية التي تهدف إلى السيطرة بدلاً من الارتقاء، والحفاظ على النظام في مجتمع مبني على القمع والاستغلال.

هذا النسيان التاريخي يخدم أغراضاً عدة: فهو يعفي الدولة البريطانية من المسؤولية، ويتجنب الدعوات إلى التعويضات والعدالة، كما ظهر أخيراً في تراجع رئيس الوزراء كير ستارمر، بعد نصيحة من المستشارين القضائيين. لقد ورث أحفاد الأفارقة المستعبَدين في منطقة الكاريبي الضعف والفقر وعدم الاستقرار وهي الإرث المباشر لوحشية الإمبراطورية.

إن الإرث الحقيقي للإمبراطورية البريطانية في منطقة الكاريبي هو معاناة إنسانية لا هوادة فيها، وهو فصل مظلم لا يمكن إعادة كتابته كقصة عن الإحسان أو التقدم.

قصة مختلفة

يروي تاريخ منطقة البحر الكاريبي قصة مختلفة، عن المقاومة ضد قرون من الخضوع واستغلال الموارد التي تطوّرت إلى النضال المعاصر ضد الهياكل الاستعمارية الجديدة المصممة لإبقاء هذه الدول تابعة. وبالنسبة لهذه الدول، فإن «إرث» الاستعمار ليس «ديناً مستحقاً» لبريطانيا، بل هو إرث دائم من الاستغلال الذي يستلزم إصلاحاً حقيقياً.

 • روبرت جينريك يعتبر أن الإمبراطورية البريطانية كسرت سلسلة طويلة من الطغيان في المجتمعات المستعمَرة التي يصفها بـ«البدائية».

• عندما ألغت بريطانيا العبودية عام 1834، قدمت تعويضات كبيرة، ليس لأولئك الذين ظلمتهم في حقبة الاستعمار، بل للمستعبدين الذين حصلوا على 20 مليون جنيه إسترليني مقابل «ممتلكاتهم المفقودة».

 

كينيث محمد كاتب مستقل في صحيفة «الغارديان» ومحلل لشؤون «الكاريبي».

عن «الغارديان» البريطانية

تويتر