ظهور إسرائيل بموقف «الضحية» دائـماً يقضي على آمال السلام
أنتوني ليرمان ❊
أعتقد أنه ما لم تتخل إسرائيل عن عقدة كونها ضحية لن يكون سلام في الشرق الأوسط، فعشية الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، برزت أصوات تدّعي بأن المعاداة للسامية عادت من جديد، وتقول إنه وبعد ثمانية أعوام من صواريخ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أرادت إسرائيل أن تثأر فثأر عليها العالم، فمثل هذا الإعلام المنحاز لإسرائيل هو الذي ينزع الشرعية من هذه الدولة العبرية.
وقديما، كان اليسار يعتبر إسرائيل شراً استثنائياً، ما جعل إسرائيل تروج عن نفسها بأنها «اليهودي الضحية» من بين شعوب العالم، حتى المسرح صار يكرر الأنماط البشرية المتمثلة في اليهوديين: شيلوك وفاغن، و«الشعب المختار» لا لشيء سوى تعذيبنا . فإذا افترضنا أن مثل هذه الأنماط لاتزال تعكس بشكل دقيق الحياة التي يعيشها اليهود اليوم، فلن يستطيع أحد أن ينكر أن المعاناة هي السمة الطاغية على حياة اليهودي.
فإذا أراد أحدنا أن يستفسر اليوم عن مدى صحة مثل هذه المعاناة وأنها ربما كانت مبالغا فيها، وتتضمن مقداراً غير حقيقي من البشاعة، فإنه سيجر على نفسه قدراً مماثلاً من العداء والإنكار وقدراً ضئيلاً من التعاطف الشعبي معه.
بيد أننا سنجد في أعمال أشهر مؤرخ يهودي في القرن الـ،20 البروفيسور سالو بارون، أن هناك مبرراً قوياً يفرض علينا طرح مثل هذا الاستفسار على أنفسنا، ويتحدث بارون بغضب ضد ما يسميه «مفهوم التباكي اليهودي على التاريخ»، والذي يضع المعاناة في لب الحياة اليهودية. ويقول في مقابلة أجريت معه عام ،1975 «تعتبر المعاناة جزءاً من المصير اليهودي». ويقول مؤرخ يهودي بارز آخر هو يوسف هاييم يورشليمي إن بارون دائما ما يناهض ذلك المفهوم الذي يصف التاريخ اليهودي بأنه «ظلام من دون ضوء، وأنه-أي بارون- يجاهد بقوة من اجل نوع من التوازن».
الحياة اليهودية الجديدة
مع انهيار الشيوعية في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي السابق، انتهى عهد كبت الممارسات الدينية اليهودية والتعبير الثقافي، وأصبح أكثر من مليوني يهودي أحراراً للاختيار بين البقاء في الطائفة اليهودية أو مفارقتها، فاختار الكثير منهم البقاء داخل الحظيرة اليهودية، ومن ثم بدأت ممارسة الحياة اليهودية من جديد. وهذه هي اللحظة التاريخية التي تعكس محور حقيقة الانتقادات التي يسوقها بارون.
استمرت الحياة اليهودية الجديدة بعد 20 عاماً من ذلك، بيد أن رد الفعل العالمي للحرب الإسرائيلية على غزة، وازدياد وتيرة الشعور المعادي للسامية في عدد من الدول منذ بداية الحرب، قد جعل كثيرين يرسمون صورة قاتمة للمأزق اليهودي.
وكشفت بحوث طليعية تم نشرها خلال ضرب إسرائيل لغزة أن المفهوم نفسه الذي يقول «إننا دائماً تحت رحمة الآخرين» ينطبق أيضاً على اليهودي الإسرائيلي.
ووجه الأستاذ في جامعة تل أبيب، دانيال بار تال الذي يعتبر أحد أشهر علماء النفس السياسي في العالم، سؤالاً لليهود الإسرائيليين يتمحور حول مفهومهم عن صراعهم مع العرب منذ بداياته وحتى الآن ليكتشف أنهم «يشعرون داخل ضميرهم بأنهم ضحية، ويتصفون بالعقلية المحاصرة، والوطنية العمياء، والنزوع للحرب، ويشعرون بأن الحق إلى جانبهم. ويرون أن الفلسطينيين مجردون من الإنسانية، ولا يشعرون بمعاناتهم».
واكتشف تال أن هناك علاقة بين هذه الذاكرة الجماعية وذاكرة «المحاكمات السابقة لليهود»، وما يسمى بالهولوكوست، ذلك الشعور الذي يتمحور حول حقيقة إن «جميع العالم ضدنا»، فإذا ما تم تطبيق مثل هذه الدراسة وسط يهود بريطانيا مثلا فإنني أشك أن تكون النتيجة ذاتها.
قد نتفهم إحساس اليهود في هذا الوضع، لكن مثل هذا الإحساس مدمر، وكما يعتقد البروفيسور بار فإن مثل هذا المفهوم يعتمد أساساً على التلقين المستمر المبني على الجهل. ولا يرغب الشعب اليهودي في مواجهة الحقائق، فإذا ظللنا أسرى لمحاكمات الماضي وكوننا ضحية فلن نستطيع أن نفكر في تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومشكلة معاداة السامية.
جنوب إسرائيل الضحية
لتبرير هجومها على غزة، أسبغت إسرائيل صفة الضحية على سكان جنوب إسرائيل الذين يعيشون في تهديد دائم من الصواريخ الفلسطينية منذ 2001 . ويبدو أن المتحدثين باسم الحكومة والجيش يجدون آذانا متعاطفة من الإعلام عندما يتحدثون عن وضع «الضحية».
إلا أن التاريخ لم يبدأ عام ،2001 وكما أشارت إلى ذلك الصحافية الإسرائيلية أميرة هاز، فإن تاريخ الحصار الإسرائيلي المضروب على الأراضي الفلسطينية يعود إلى عام 1991 أي قبل أن تبدأ العمليات التفجيرية، فالتكرار المستديم للمعاناة الإسرائيلية المزعومة، والتجاهل المستمر لجميع الحقائق على الأرض، والترديد المستمر لعبارة: لا يمكن لدولة أن تتسامح مع مثل هذا التهديد الذي يطال مواطنيها، الأمر الذي جعل الخيار العسكري هو البديل الوحيد لتسوية الوضع. وأصبحت عبارة: «لا يوجد خيار آخر» هي العبارة المحببة، وتجاهل الإسرائيليون تلك المفاهيم العسكرية والأمنية الثرية، لاسيما بعد كارثة حرب لبنان ،2006 والتي تقول إن الحل العسكري غير ممكن مع المجموعات الإسلامية مثل (حماس) وحزب الله اللبناني. وحتى قبل حرب لبنان يرى المتحدث السابق باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، نهمان شاي عام ،2004 انه «على الرغم من كل الحنق واليأس والقنوط والتقزز الذي نشعر به ينبغي علينا الحوار مع حزب الله، ويجب أن نستغل كل إمكانية للوصول معه لحل وسط لكي نكسب وقتاً ثميناً». وفي أول يناير الماضي ذكر الرئيس السابق للموساد، افرايم هاليفي «أن تجنيب سكان جنوب اسرائيل خطر الصواريخ يتمثل في فتح المعابر الذي سيكفل الهدوء ولأجيال قادمة».
إحباط للحل العسكري
ونشير هنا إلى أن النشاط الدبلوماسي المحموم هذه الأيام، والزيارة الأولى لمبعوث الرباعية، توني بلير إلى غزة، ومباحثات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مع القادة الإسرائيليين واللهجة الحادة بشأن المستوطنات، والتعهد بتوفير خمسة مليارات دولار لإعمار غزة-كل هذه تعتبر علامات إحباط للحل العسكري الإسرائيلي. كما برهنت هذه التحركات بأن الهجوم على غزة قد فتح الباب على مصراعيه لخيارات دبلوماسية واحتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية. وبدلاً من أن يبرهن الهجوم على غزة على انه العدالة الحكومية للاقتصاص لأهالي جنوب إسرائيل المرعوبين، فإنه برهن للعالم كله، لاسيما للإدارة الأميركية الجديدة مسؤولية إسرائيل عن الظلم الذي أدى للكارثة الإنسانية في غزة.
ليس من الحكم الصائب أن نشعر بالرحمة حيال الإسرائيليين المرعوبين من صواريخ «حماس» فحالهم حال الفلسطينيين نفسه الذين يعيشون في سجن غزة، على الرغم من أن أهداف المجموعتين السكانيتين ليست متطابقة. فالإسرائيليون يرون أنفسهم بأنهم داوود ضد جالوت، والعالم يرى فيلاً قوياً وفأراً عدوانياً شرساً، ويطالب هذا الفيل أن يعترف الفأر بوجوده (الفيل)، قبل بدء أي مفاوضات بناءة مع الفلسطينيين. ويقول تال إن ذلك من شأنه أن يرسل رسالة تعكس ضعفنا و «إننا نصدق حقيقة أن ذلك الفأر يهدد وجودنا».
الأمل، والتفاؤل الذي صاحب انهيار الشيوعية وانبعاث الحياة اليهودية من جديد في شرق أوروبا عام 1989 طغت عليه النزعة الدفاعية والعقلية الاثنية المنغلقة، والتي جعلت من إيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني صعباً للغاية.
في الوقت الذي نقدر فيه حجم الألم الذي يسببه الشعور المعادي للسامية علينا أن نتخلى عن السيناريوهات الوحشية والطرق عديمة الجدوى في مواجهة مثل هذه المشكلة، وذلك مثل تهويل الانتقادات اللاذعة الموجهة لإسرائيل. علينا ان نتحاور في ما بيننا عن طرق بديلة لتفسير ما يحدث لنا وما ينبغي علينا ان نفعله لمواجهته، وللأسف فإن المؤسسة اليهودية وبعض من نصبوا أنفسهم حراساً للكبرياء اليهودي يرون في ذلك خيانة وإنكار لمعاداة السامية.
ولعل أفضل مثال للاستعباد الذي تفرضه علينا معاناتنا، هو ذلك الصمت المخيف المطبق الذي التزمه قادتنا حيال ممارسات زعيم حزب إسرائيل بيتنا، افيغادور ليبرمان الذي وصفته صحيفة هاراتس بأنه «نفذ حملة عنصرية ضد (عرب 48) وأنه ارتكب اعمالاً إجرامية»، ومما يثير الحزن والأسى ان زعماء ثلاثة احزاب اسرائيلية كبيرة قد غازلوه وأسبغوا عليه مظاهر الاحترام من دون ان يسدوا انوفهم من رائحة ما فعل. وقبل ان نضع المرآة جانبا فإننا نرى صورة ليبرمان تنعكس عليها، ونرى اننا لسنا ملزمين بقبول المصير الذي يفرضه علينا اليهود أصحاب العقلية الاثنية المنغلقة.
إن الخروج من هذا المأزق والحفاظ على التوازن قد يأتي من اعترافنا بالحقائق المرة على الأرض، وإنني اعلم جيداً ان الحصار والقصف وغزو غزة ليست مثل اجتثاث الألمان لغيتو وارسو-وهي تلك المقارنة التي كثيرا ما يعقدها منتقدو إسرائيل عبر الإنترنيت. وإذا ما تخلينا عن مثل هذه المقارنات، فإننا نستطيع بشيء من الهدوء والتروي ان نتمعن ونفحص كنه حقيقة الصراع، لكننا إذا توقفنا لنفكر عن معاناة طفل يهودي يحتضر في الغيتو وآخر فلسطيني يحتضر في غزة، فلن يجدي ذلك نفعاً. وكما يعتقد البروفيسور بارون أننا سقطنا في شراك اعتقاداتنا بأن هناك شيئاً مميزاً في ما يتعلق بالمعاناة اليهودية، لكن الواقع يقول بخلاف ذلك.
عن :«اندبيندنت»