قتل الصحافيين شبح يطارد المجتمع الروسي

متظاهرون يحتجون على اغتيـــــال صحافيين روس. إي.بي.إيه

يثير ما يتعرض له الصحافيون في روسيا من ملاحقات، تصل إلى حد التصفية الجسدية في ظروف غامضة، أسئلة عديدة حول القوى التي تقف وراء ذلك، ويحمّل كثيرون الحكومة مسؤولية ذلك، بينما يعزوها كثيرون إلى عالم روسيا السري، مثل عصابات المافيا أو الجماعات اليمينية المتطرفة أو جماعات الجريمة المنظمة الدائرة في فلك رجال الأعمال .

وتسببت الملاحقات في حملة داخلية وخارجية على النظام السياسي، لاسيما من منظمات حقوق الإنسان والأوساط الإعلامية التي على الرغم من عدم امتلاكها أدلة كافية عن تورط حكومي في هذه الجرائم، إلا أن هناك تصورات أن هذا البلد لم يتخلص بعد من آثار تركة الحقبة السوفييتية السابقة، في ما يتعلق بالتخلي عن أجواء القمع، وأن صدور قادة الكرملين تضيق كثيراً بكل من يجرؤ على انتقاد سياستهم، ويكشف اخطاءهم من قرارات وممارسات فساد مالي وسياسي.

وتمتلئ جعبة الحقوقيين بعشرات الروايات في هذا السياق، وهناك ثلاث جرائم توافرت لها الأدلة التي جعلتها مجالا للتحقيق، وتتواصل جلسات المحاكمات فيها، على أمل الوصول إلى قصاص عادل .

 


مأساة لا تغيب
الصحافية «آنا بوليتكوفسكايا» الحائزة على جائزة منظمة العفو الدولية لصحافة حقوق الإنسان عام 2001 اغتيلت في 7 أكتوبر 2006 أمام البناية التي تقطن فيها في موسكو، كانت البداية، ومازال ملف قضيتها مفتوحاً على الرغم من الغموض الشديد الذي تفوح منه رائحة ضغوط الكرملين وتدخلاته.

ثم جاءت الحلقة الثانية، ممثلة في اغتيال الطالبة الصحافية التي تدرس الإعلام في جامعة موسكو «ناستيا بابوروفا » (25 عاماً) التي نشرت تحقيقات مطولة، عما ترتكبه عصابات من النازيين الجدد وحليقي الرؤوس من اليمين المتطرف، من جرائم قتل ضد الأجانب، في مجلة « نوفايا غازيتا » التي كانت تعمل فيها بوليتكوفسكايا في ديسمبر الماضي.

الحلقة الثالثة هي اغتيال الصحافية «أناستسيا بابوروفا»، ومعها المحامي الروسي الناشط في قضايا الشيشان «ستانيسلاف ماركيلوف»، وسط العاصمة في 19 يناير الماضي.

ولا تخفى شواهد عديدة تدفع كثيرين في روسيا وخارجها إلى وصف محاكمة قتلة بوليتكوفسكايا بأنها فصول تتوالى ببطء شديد من عملية تسويف متعمدة، إما من القضاء أو بتحريض وضغوط من الكرملين، ما يثير تساؤلات حول ماهية مصلحة الحكومة في هذا الإيقاع البطيء والممل لسير المحاكمة، وما إذا كان مسؤولون متورطين في عملية التخلص من الصحافية التى تجرأت على انتقاد سياسة حكومتها في القوقاز عامة، وممارسات القوات الروسية وجرائمها في الشيشان على نحو خاص .

في أحدث المستجدات بالنسبة لسير المحاكمة، أعلن مكتب المدعي العام أنه تقدم بطلب استئناف ضد قرار المحكمة الصادر في جلستها أخيراً بتبرئة أربعة متهمين، هم الشقيقان جبرائيل وإبراهيم محمودوف، وشقيقهما الثالث رستم الذي لم يتم اعتقاله، والشرطي السابق سيرجي كربانوف، من تهمة قتل بوليتكوفسكايا في 7 أكتوبر 2006 بإطلاق النار عليها في باحة البناية التي تقطنها في موسكو . وطلب القاضي يفيغيني زوبوف المكلف بالقضية استئناف التحقيق في ملابسات اغتيال الصحافية، وإعادة ملف القضية إلى لجنة التحقيق في النيابة الروسية، للعثور على المتورطين في الجريمة، بعد تبرئة هيئة المحلفين المتهمين الأربعة. بينما قال ممثل الدفاع عن المتهمين أمام المحكمة إن سلاح الجريمة لم يكن يحمل آثار الحمض النووي للمتهمين، وإن الاتصالات الهاتفية لهؤلاء لا تثبت أنهم كانوا في مكان الجريمة عند وقوعها .

وعبر أبناء الصحافية الضحية إيليا بوليتكوفيسكي وشقيقته فيرا عن أسفهما لقرار الإفراج عن المتهمين، وقالا «نرى أن الأربعة على علاقة بشكل أو بآخر بقتل والدتنا، وكان يجب إثبات درجة مسؤوليتهم أمام المحكمة، لكن هيئة المحلفين لم تفعل».

وتدفق سيل من ردود الفعل المنتقدة لقرار الإفراج عن المتهمين، حيث دعت مديرة برنامج أوروبا وآسيا الوسطى في منظمة العفو الدولية نيكولا دوكوورث السلطات الروسية إلى عدم التوقف عند هذا الحد، ومواصلة التحقيق في قتل الصحافية، والوصول إلى القتلة وتقديمهم إلى العدالة. ودعت المحققين الروس إلى دراسة كل الروايات الممكنة بالتفصيل، وجمع ادلة دامغة وملاحقة كل المذنبين في القضية .

وكان رئيس تحرير صحيفة «نوفايا غازيتا»، سيرغي سوكولوف، واضحاً وجريئاً للغاية، وكتب أن الذين أفرج عنهم متورطون في القتل، وأن النظام فاسد، لأنه منع المحققين من العمل وسمح بفرار القاتل، وإن القاضي زوبوف وعد بمحاكمة مفتوحة وشفافة أمام الصحافة، وكان جديراً به أن يتنحى أو يستقيل. وأشارت صحيفتان أخريان إلى أن الاتهام انهار مثل قصر من ورق .

وكان هناك شبه إجماع من الصحف الروسية على انتقاد قرار تبرئة المتهمين، وتنوعت ردود الفعل في هذا الإطار، فمنها التي ذكرت أن القرار يفسر بوضوح شديد الفشل الكامل في التحقيقات الخاصة باغتيال الصحافية بوليتكوفيسكايا، ومنها التي رأت أن قوات الأمن برهنت على عجزها المطلق في التحقيق في الجريمة السياسية المثيرة . وترى صحيفة ثالثة إن ما حدث كشف عن غياب الحرفية لدى المحققين . وكتبت أخرى أن قرار المحلفين أثبت أن عامين من التحقيقات لم يأتيا بأي جدوى . وصرحت رئيسة المنظمة الروسية غير الحكومية للمساعدة المدنية، سفيتلانا غانوشكينا، أنها كانت تتمنى أن يتم الكشف عن ملابسات الجريمة ومرتكبيها، لكنها - للأسف - منذ اليوم الأول متشائمة حيال آفاق التحقيق، وقالت « إنها أزمة نظام قضائي، وقبل كل شيء نظام التحقيق» .

ولا يجب أن ينسى أي منا ما قاله آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، بعد يومين من اغتيال بوليتكوفسكايا التي أزعجت بجرأتها قادة الكرملين، بسبب تقاريرها عن ممارسات القوات الروسية في الشيشان الكرملين، «هذه جريمة وحشية وبشعة ضد امرأة شجاعة وصحافية جادة محترفة، وتمثل صفعة للصحافة الديمقراطية والمستقلة . إنها جريمة ضد روسيا وضدنا جميعاً».

أناستاسيا بابوروفا. 


شيوع الجريمة
وفي فبرايرالماضي، تم تشييع الطالبة في قسم الإعلام والصحافة في جامعة موسكو الصحافية المتدربة أناستاسيا بابوروفا التي قتلت في ظروف غامضة مع صديقها المحامي والصحافي ستانسيلاف ماركيلوف، بمشاركة جمع غفير من زملائها في الجامعة وفي المجلة، وغرقوا جميعاً في حزن عميق تؤججه الدموع .

وقال زميل لها من المشيعين «لن أصف تفاصيل الجنازة ومراسم التشييع، لكننا كلنا من طلبة وأكاديميين وصحافيين نقول إنه لا يمكن أن يكون موتها حقيقة، إنه أمر مروع ولا يصدق، وسنبقى نتذكره طويلاً بكل ألم، وليس هناك من جواب للتساؤلات (ماذا ولماذا وكيف)، العثور على إجابات لهذه الأسئلة مسؤوليتنا نحن».

ويرجح محللون أن تكون عناصر من جماعات اليمين المتطرف من حليقي الرؤوس أو النازيين الجدد هي التي قتلت بابوروفا، لأنها تجرأت وكتبت عن جرائم تلك الجماعات وما تغذيه من ثقافة الكراهية والعنصرية، أو ربما لأنها تمكن من الحصول على معلومات على جانب كبير من الخطورة والأهمية عن تلك الجماعات، ما يستدعي معه ضرورة التخلص منها .

ويقول مراقبون إنه ليست هناك مؤشرات أو بوادر إلى أن السلطات الأمنية والقضائية الروسية باشرت التحقيق في جريمة قتل أناستاسيا، لكن الإجابة جاهزة سلفاً لدى تلك السلطات، وهي أن التحقيقات جارية، وفي بداياتها من عملية جمع المعلومات،

وكانت بابوروفا التي انضمت لمجلة «نوفاياغازيتا» في أكتوبر الماضي قررت القيام بتحقيقات ذات طبيعة استقصائية متعمقة في جماعات النازيين الجدد في روسيا، ويساعدها في ذلك المحامي الناشط ستانيسلاف ماركيلوف .

ستانسيلاف ماركيلوف. 


ناشط ضد العنصرية
وكان لماركيلوف المحامي الشاب (34 عاماً) نصيب من الشهرة والسمعة الطيبة، لتبنيه قضايا عديدة، رفعها شيشانيون من ضحايا الحرب ضد الجنود والضباط الروس، ومنها متابعته لقضية اغتصاب ضد ضابط روسي سابق، وأخرى تتعلق باختطاف وتعذيب ضد شيشانيين رجالاً ونساء .

عمل ماركيلوف الذي ولد في 1974 في موسكو كمحام وصحافي مهتم ومختص بشؤون حقوق الإنسان، وحرر تحقيقات عديدة عن الحرب في الشيشان وممارسات القوات الروسية فيها، وتولى قضية عائلة الشابة الشيشانية إلزا كونغاييفا التي قتلت على يد الضابط الروسي يوري بودانوف الذي تم إطلاق سراحه من السجن قبل انتهاء مدة محكوميته بـ15 شهراً.

وكان ماركيلوف رئيس معهد «حكم القانون في روسيا»، وتولى الدفاع عن بوليتكوفسكايا وعن شيشانيين تعرضوا للضرب والتعذيب والاغتصاب على أيدي عناصر الشرطة الروسية .

واستناداً إلى ما يقوله المحلل العسكري الروسي بافل فيلغينهاوير، فإن تفاصيل الجريمة تشير بقدر كبير من الوضوح إلى تورط جهاز أمن الدولة الروسي . لذا، فإن اطلاق النار على أناستاسيا وماركيلوف في موسكو في يناير الماضي كان متوقعاً، ولم يكن مفاجئاً. في حين ذهب محللون إلى أن الأوامر باغتيال جاءت على الأرجح من الشيشان، وأن القتلة لا يخافون شيئا، لأنهم واثقون من أنهم لن يتعرضوا للحساب أو العقاب، لكن الضحايا لم يكونوا يعرفون الخوف أيضا، وكذلك أصدقاؤهم، ويرفعون في كل مناسبة شعار «لسنا خائفين».

أيادٍ خفية
ويشير معلقون إلى أن الكرملين لن يسمح بكل بساطة بتسهيل عملية القبض على الفاعلين، ومن يقف وراءهم من مسؤولين أو سياسيين، وربما كان يراهن على موت قضية اغتيال هؤلاء الصحافيين والناشطين المدافعين عن الحريات، وطيها عبر عامل الزمن، لكن منتقدين للكرملين يستبعدون ذلك، ويقولون إن هذه القضايا ستبقى حاضرة بقوة روسياً وعالمياً. ويستشهدون بالسؤال : كيف يمكن لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين والكرملين نسيان مواقف بوليتكوفسكايا وأناستاسيا وغيرهما التي تعكس شجاعة متناهية في تعرية ما ارتكبه أبناء جلدتهم من قتل وتعذيب واغتصاب وتدمير ؟.

  بوليتكوفسكايا: أنا عدوة جيش لا أخلاقي وأساطير «مفبركة»

 

« لم أتوجه بالنقد إلى بلادي لكراهيتي لها، بل لأنني أحبها إنطلاقا من إيماني بضرورة فضح الفاسدين، باعتباره أول الطريق للعودة بروسيا إلى أخلاقيات ما قبل الثورة الشيوعية، وأن الحرب في الشيشان عسكرت المجتمع الروسي، وأساءت إليه، وأدخلت على ثقافته مصطلحات الكراهية والعنصرية، وزرعت الشكوك والخوف في البيوت، حتى أصبحنا نسمي شعوب القوقاز والشيشان بـ(الشعوب السوداء) . وهذه انتكاسة عرقية فيها إهانة للإنسانية، وأصبح كثير من أبناء تلك الشعوب أعداء للروس. نعم، أنا عدوة جيش لا أخلاقي يعاني الانحطاط، وعدوة الكذب حول الشيشان وعدوة الأساطير المفبركة».

تويتر