«لاهاي» تنزع فتيل أزمة أبيي إلى ما بعد الاستفتاء
بدّد القرار الأخير لهيئة التحكيم الدولية في محكمة لاهاي بضرورة ترسيم الحدود الشرقية والغربية لإقليم إبيي المخاوف- ولو إلى حين- من تصعيد النزاع بين «الشريكين» حكومتي الخرطوم وجنوب السودان حول المنطقة الغنية بالنفط والأراضي الخصبة، بعد أن أعطى الشمال السيطرة على أهم الحقول النفطية، وترك للجنوبيين فرصة ضم بقية الاراضي الى مناطقهم في الاستفتاء المنتظر والذي يحدد مصير المنطقة وتبعيتها إما شمالاً وإما جنوباً.
القرار اعتبر من قبل طرفي النزاع منصفاً وحكيماً، حيث رأت فيه الخرطوم انتصارا لمنحه إياها السيطرة على حقل هجليج وخط أنابيب «نفط النيل» وحقول أخرى، أما الجنوب الذي يطمح إلى ضم أبيي إليه عقب استفتاء عام 2011 فيرى في ذلك انتصارا رمزياً لقبيلة الدينكا الأقوى هناك.
لقد فتح قرار محكمة لاهاي، بضرورة ترسيم الحدود لإقليم إبيي، بعد أن اتضح لها تجاوز لجنة الخبراء التفويض الممنوح لها في ما يتعلق بتلك الحدود، باباً من الآمال العراض من شأنه أن ينزع فتيل الأزمة بين الاطراف المتصارعة في احتواء هذه القضية الشائكة، إذا ما نظرت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى بترول ابيي باعتباره عائدا وطنيا مشتركًا وليس مصدرا لدولة جديدة، ربما تخرج من رحم الاستفتاء، وإذا ما نظرت حكومة الخرطوم بجدية إلى مخاطر تجدد الاشتباكات بين قوات الشمال والجنوب، في الوقت الذي لا تزال فيه مشكلة دارفور وتبعاتها قائمة.
بوادر تفاؤل
ما يدعو إلى التفاؤل بإمكانية تجاوز السودان تداعيات هذه المشكلة التزام الطرفين بما توصلت إليه هيئة التحكيم وقبول قرار محكمة لاهاي النهائي بصدر رحب، ما قلل المخاوف من تجدد النزاع في المنطقة الغنية بثرواتها، وبالتالي نسْف الاتفاق التاريخي الذي تم التوصل إليه قبل أربع سنوات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية الذي أنهى 20 عامًا من الحرب الأهلية.
أهمية أبيي تكمن في كونها المنطقة التي خرج منها التمرد الثاني الذي قضى على اتفاقية اديس ابابا، هذا من جانب، والبعد الآخر لأهمية المنطقة خصوصيتها بالاستفتاء على مصير الاقليم، إما بالبقاء في الشمال، أو الانضمام لبحر الغزال بالجنوب. وأبيي التي وتقع في ولاية جنوب كردفان وتحدها شمالاً المناطق التي تسكنها قبيلة المسيرية، وجنوباً بحر العرب، ويعيش فيها مزيج من القبائل الإفريقية مثل دينكا نقوك، والعربية مثل المسيرية والرزيقات، تعتبر منطقة تداخل وجسر تواصل بين الشمال والجنوب منذ زمن بعيد.
وعلى عكس كثير من التوقعات التي كانت تتحدث عن انفراط عقد الأمن بمنطقة أبيي، خصوصاً أن الأذهان مازالت تحتفظ بصور لسيناريو احداث مايو الماضي، استقبلت البلدة قرار محكمة لاهاي بكثير من مظاهر الفرح، حيث شهدت المدينة حراكاً طبيعياً لسكانها، خصوصاً بعد تأكيدات شريكي الحكم التزامهما الكامل بالقرار، الأمر الذي انعكس إيجاباً على المنطقة في شكل طمأنينة وإحساس بالأمن.
معادلة ومصالح
على الرغم من أن الوقت مازال مبكرا لأي تكهنات بآثار قرار هيئة التحكيم، إلاّ أن القراءة الأولى لحيثياته تمكن من القول إنه جاء ليعبر عن معادلة تراعي الواقع على الأرض ومصالح إنسان المنطقة.حيث كشف قرار الهيئة عيوب تقرير الخبراء السابق الذي أجري حوله التحكيم، وأثبت أنه لا يخلو من الطعونات، وأعاد القرار الأمور إلى نصابها بالصورة التي خرج بها، ما ساعد شريكي الحكم «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية» وساكني المنطقة على قبوله والتعامل معه دون الشعور بالظلم.
لقد أجاب القرار الحيادي على الفرضيتين الموضوعتين أمام منضدة الهيئة: الأولى المتعلقة بإمكانية تجاوز لجنة الخبراء التفويض الممنوح لها، والثانية الخاصة بواقع الحدود الآن، وأشار الى أن الحدود الجنوبية للمنطقة في الأصل لا مشاكل فيها بحسب ما ورد في قرار المستعمر الانجليزي في عام 1905م، حينما حوّل مناطق الدينكا في منطقة شمال بحر العرب الى جنوب كردفان.
وكذلك نزع قرار هيئة التحكيم فتيل قنبلة أبيي الموقوتة وأبطل مفعولها قبل ان تنفجر في ظل الظروف السياسية البالغة التعقيد التي يمر بها السودان حالياً. انفجار قنبلة أبيي كان سيتسبب في ضياع اتفاقية السلام واندلاع الحرب من جديد، لولا صدور القرار بصورة توفيقية، مزج فيها بين متطلبات المنطقة من الناحية السياسية والقانون، بجانب أنه راعَى كل هذه الاعتبارات في ترسيم الحدود، من دون ان يتضرر طرف بعينه، الامر الذي جعل القرار محل ترحيب من القوى السياسية كافة.
الرهان الكبير
أبيي بعد قرار لاهاي مرشحة في حال توافرت الارادة السياسية، ان تشهد حياة جديدة من الامن والتعايش السلمي،تضع حداً لمعاناة سكانها،وان تلقي وراء ظهرها الجدل الحدودي والمشاحنات السياسية والامنية. فالقرار الذي ساهم في تهدئة الخواطر واختار طريقاً وسطاً لترسيم الحدود، وثبّت قضايا مهمة مثل حقوق الرعي داخل الوحدة الادارية وخارجها شمالا وجنوبا، وحرية حركة القبائل الرعوية في غرب كردفان، حتى مصادرالمياه بمنطقة الرقبة الزرقاء، بلا شك سيساعد وبشكل مباشر في جذب مزيدٍ من الاستثمارات والمستثمرين من الداخل والخارج، للاستفادة من الموارد النفطية وموارد الثروة الحيوانية التي تتمتّع بها المنطقة، التي لم تُستغل طوال السنوات الماضية بسبب غياب الأمن.
لاهاي حسمت نزاع الحدود ورسمت خريطة طريق لطرفي النزاع، ولكن يبقى أمر الفصل والقرار النهائى في تبعية منطقة ابيي لاهلها، سواء بالانضمام للجنوب أو البقاء في الشمال من خلال الاستفتاء المصيري الذي سيجرى في عام 2011 ،والذي سيشارك فيه المسيرية، جنباً الى جنب مع الدينكا، وهو الاختبار الحقيقي والرهان الكبير، وفي انتظار هذا القرار الذي سيتخذه سكان أبيي أنفسهم ستظل كل الاحتمالات مفتوحة، والابواب مشرعة، والايام حبلى بما سيكشفه الغد من مفاجآت وتقلبات. |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news