المافيـا الإيـطالية تستبيح مدينة جيلا في غياب القانون
استطاعت المافيا أن تفرض وجودها في إيطاليا منذ عقود رغم الجهود المضنية التي قامت بها الحكومات المتتالية.
وتنشط الجماعات الإجرامية بشكل أساسي في الجنوب، حيث يصعب على قوات الأمن اختراق صفوفها. وباتت هذه الظاهرة تؤرّق المسؤولين والمواطنين على حد سواء. ومن الأسباب التي أدت إلى استفحال الجريمة في المدن الجنوبية، غياب القانون وعجز الشرطة أمام عناصر المافيا وتفشي الفساد في مؤسسات الدولة.
تعتبر جزيرة صقلية المعقل الرئيس للمافيا الإيطالية، وتتركز أقوى المجموعات في مدينة باليرمو، ومدينة جيلا التي يبدو أن سكانها قد فقدوا الأمل في مساعدة الحكومة لهم، وتعرف المدينة بأنها «قمامة» إيطاليا، إلا أن المدعي العام المكلف ملف محاربة المافيا، الذي لم يذكر اسمه لدواعٍ أمنية، يقول إن الصورة ليست قاتمة إلى هذه الدرجة، حيث تشهد جيلا حركة اقتصادية واجتماعية نشطة، وهذا، حسب رأيه، دليل على استتباب الأمن فيها.
وفي المقابل يتعرض القضاة وأعضاء النيابة في المدينة، إلى تهديدات بالتصفية من قبل جهات مجهولة. ويخشى أن تغادر الهيئة القضائية بالكامل في ظل الوضع الأمني المتردي.
وفي غياب السلطات يقوم المواطنون ورجال الأعمال في جيلا بمحاربة أفراد المافيا المحلية التي يطلق عليها اسم «بيزو»، وعلى باب البلدية تمكن مشاهدة لافتة كبيرة عليها عبارة تقول «لن ندفع لأحد» وتحت العبارة يوجد رقم هاتف وُضع لاستقبال المكالمات التي تبلّغ عن أفراد المافيا. تمكن سكان المدينة من إلقاء القبض على 850 عضواً في الأخطبوط الإجرامي، وعلى الرغم من التهديدات التي تمثلها المافيا لا يتردد عشرات المواطنين في إعلان الحرب على المجرمين المعروفين بالانتقام البشع. يقود عمدة البلدية روزاريو كروسيتا حملة ضد المافيا ويسانده في ذلك أبناء المدينة الذين اختاروا الخطوط الأمامية لمحاربة المافيا، وقد أدى خلاف بين مجموعتين يطلق عليهما «كوزا نوسترا» و«لاستيدا»، إلى معركة مسلحة سقط فيها 400 شخص. ويعيش في المدينة نحو 85 ألف شخص، وتعاني جيلا من سوء التخطيط العمراني والبناء الفوضوي، إضافة إلى ندرة المياه صيفاً.
الاختراق السهل
تحاول المدعية العامة لوسيا لوتي، التي تذهب إلى عملها في المحكمة في سيارة مصفحة ووسط حراسة مشددة، أن تعطي الانطباع بأن الأمور تسير على ما يرام، من خلال جولة قصيرة مع الصحافيين. إلا أن الزائر للمدينة يشعر بأن الخطر يترصده في كل مكان، وتشهد جيلا 150 جريمة كل عام، ومع استفحال الأزمة المالية زاد الوضع سوءاً. وحسب كروسيتا فإن كل رجل أعمال أو صاحب شركة في المدينة يضطر إلى دفع 500 يورو شهرياً لعناصر الـ«بيزو» الذين يقومون بجدولة ديون الأشخاص الذين لا يستطيعون الدفع ويتدخلون في إدارة إيرادات شركاتهم.
تستطيع المافيا اختراق المؤسسات المحلية والشركات الخاصة بسهولة، وقد تم توقيف سبعة عناصر من جماعة «لاستيدا»، نهاية مارس الماضي، حيث كانوا يخططون لخطف مدير بنك «راغوز» المحلي. ومن بين الموقوفين صاحب ملهى ليلي يرتاده النخبة في جيلا، وقد عثر على رشاشات ومتفجرات في منزل المتهمين، وأسهم التنصت الهاتفي في القبض على المجرمين.
قامت الجهات القضائية بالتحفظ على رجل مهم في جيلا يدعى ستيفانو إيطاليانو، خوفاً على حياته بعد أن كشف عن تعرضه للابتزاز والمساومة من طرف عناصر المافيا. إلا أن مصادر في المدينة تقول إن إيطاليانو قام بتشغيل مبالغ معتبرة في شركته تعود للمافيا، ومن أجل لفت الأنظار وإبعاد الشبهات عليه قام الرجل بترشيح نفسه لمنصب نائب جمعية مكافحة الابتزاز. ويدل هذا التناقض على الوضع المعقد في المدينة.
ثورة المدنيين
يقول العمدة كروسيتا ان بلدته «أول مدينة في إيطاليا تثور ضد المافيا بشكل جماعي. نحن بصدد تحريرها». ويرى المراقبون أن كورسيتا يعتبر شخصية خارجة عن المألوف، حيث استطاع أن يبقى في منصبه لمدة سبع سنوات على الرغم من حربه العلنية على المافيا، وهذا أمر يثير التساؤلات في حد ذاته. فالأيادي الإجرامية يمكنها أن تصل إلى أي شخص فما بالك بشخصية عامة مثل عمدة المدينة! وحصل كروسيتا على دعم شعبي كبير في انتخابات يونيو 2007 حيث صوت لصالحه 65٪ من الناخبين ومنذ ذلك الحين ركز العمدة على ملاحقة الشركات التي لها علاقة بالجريمة ووقف نشاطها. كما حرص على تنضيف الإدارة من الموظفين المشبوهين، وشمل ذلك إقالة زوجة أحد المسؤولين المحليين. وعرف كروسيتا بجرأته وشجاعته في الحرب ضد المافيا ولم يتردد في الهجوم عليها كلامياً في التجمعات العامة. وشكل بمعية أربعة من كبار رجال الأعمال في جيلا جمعية لمحاربة الجريمة. ومع ذلك فالمسؤول الجريء لا يتنقل إلا ضمن حراسه الشخصيين وفي سيارة مصفحة
وجهة غير مرغوبة
تقول وكيلة النيابة أنا كانابا «على المدى القريب قد لا نجد ممثلين للنيابة في جيلا». وقد وافق البرلمان على قانون يشترط خبرة لاتقل عن أربع سنوات لمن أراد أن يلتحق بالنيابة في مدن صقلية وخلال الاختبار الذي أجري أخيراً رفض المتقدمون التطوع للخدمة في جيلا وتقول كانابا إنه لن يبقى لديها في سبتمبر المقبل إلا مساعد واحد في النيابة العامة بعد أن كانوا خمسة، أما رئيس النيابة المكلف بمحاربة المافيا في إقليم وسط صقلية سيرجيو لاري فيعتقد أن الوضع في غاية الخطورة، عدا بالبيرمو وكاتان، فإن النيابات في جميع المقاطعات تعمل بنصف طاقتها ومن ثم فليس لدينا الوقت أو الوسائل للقيام بالتحقيقات. بالإضافة إلى ذلك قلصت الحكومة الميزانية المخصصة للقضاء في الجزيرة. ويقول لاري أن الميزانية المخصصة لمقاطعته هذه السنة، المقدرة بـ70 ألف يورو، قد نفدت في أبريل. ويذكر أن الميزانية العام الماضي كانت 400 ألف يورو، ويضيف لاري «عموماً لقد فقدنا ثلثي المناصب».
وفي أروقة المحكمة في جيلا يلاحظ الزائر غياب الشرطة وحراس أعضاء النيابة رغم أن الحكومة كانت قد خصصت لهم الحماية، ويعود ذلك إلى العجز الحكومي عن توفير الميزانية الضرورية للأجهزة القضائية، الأمر الذي يفتح المجال واسعا للمافيا لكي تمارس نشاطاتها الإجرامية من دون الخوف من الملاحقة القانونية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news