تقارب حذِر بين روسيا وتركيا
عرفت العلاقات الروسية التركية على مدى القرنين الماضيين توترا وصراعا محموما، واعتبرت أنقرة التي كانت تتزعم الامبراطورية العثمانية الاتحاد السوفييتي عدوها اللدود وعملت على الحد من نفوذه، وخاضت من أجل ذلك حروبا دموية راح ضحيتها الكثير من الجنود والمدنيين من كلا الطرفين. ومن الأمثلة الشعبية الرائجة في تركيا حتى الآن «الروس صفتهم الغدر»، ما يدل على عمق الهوة بين البلدين وانعدام الثقة بينهما، إلا أن ذلك لم يمنع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين من توقيع اتفاقية شراكة في مجال الطاقة قبل أسبوعين، وتحاول روسيا من خلال هذه الاتفاقية الاستغناء عن أوكرانيا التي تنقل 80٪ من غازها عبر أراضيها في اتجاه أوروبا، وقد أدت الخلافات المتكررة بين موسكو وكييف إلى قطع الإمدادات عن القارة ما نتجت عنه معاناة ملايين الأوروبيين خلال فصل الشتاء، واتجهت أنظار روسيا وأوروبا نحو تركيا نظرا لموقع هذه الأخيرة الاستراتيجي، حيث تقع في ملتقى خطوط الإمدادات الرئيسة للطاقة في العالم.
التقت بعض المصالح الروسية والتركية بعد انتهاء الحرب الباردة، ودعم كل منهما الحرب الأميركية في أفغانستان، كما عارض الطرفان الحرب في العراق بشدة، وتغيرت النظرة الروسية لأنقرة بأنها «دمية في أيدي الأميركيين» عندما رفض البرلمان التركي في مارس ،2003 السماح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية لفتح جبهة برية ثانية ضد نظام صدام حسين، وخلال الحرب الروسية الجورجية، تصرفت أنقرة بشكل يرضي الروس حيث تعاملت مع واشنطن حسب وثيقة «مونترو» الخاصة بالملاحة في مضيقي البوسفور ولم تسمح إلا بمرور عدد قليل من البوارج الحربية الأميركية، وكان واضحا حينها أن الطرفين لم يكونا يريدان تدخل القوات الأميركية في المنطقة.
من جهة أخرى، يرى المحلل في مؤسسة جيرمن مارشل، بواشنطن إيان ليسر أن «الإدارة الأميركية الجديدة غير راضية عما تفعله أنقرة مع إيران»، في حين ينظر البيت الأبيض إلى الانفتاح على روسيا بأنه استراتيجية جديدة تنتهجها أنقرة من باب التعاون والتنسيق مع جيرانها. هذا في الوقت الذي يبقى فيه الأوروبيون منقسمين تارة ومترددين تارة أخرى في ما يخص موقفهم تجاه تركيا، ويذكر أن رئيس الوزراء الإيطالي كان حاضرا أثناء توقيع الاتفاقية المذكورة، في أنقرة، حيث تشارك شركة الطاقة الإيطالية في تنفيذ مشروع الأنابيب التي تنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، وفضلا عن كون روسيا شريكا اقتصاديا مهما بالنسبة لتركيا فإن جالية روسية معتبرة استقرت في البلاد منذ سنوات، وتعتبر تركيا وجهة رئيسة للسياح الروس الذين يقصدون منطقة الأناضول وشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ويعيش في أناتاليا وحدها نحو 15 ألف روسي أغلبهم من النساء اللواتي تزوجن من أتراك، ويطالب هؤلاء الروس بإقامة كنيسة أرثوذكسية في المدينة الواقعة جنوب البلاد.
تبدي روسيا قلقا كبيرا بشأن التسهيلات التي يلقاها المعارضون الشيشان في تركيا، ومن بين هؤلاء، الخطيب طاهر بيوكوركو الذي يهاجم موسكو في خطبه ولم يتردد في وصف الروس في برنامج تبثه قناة «كون» التركية في اسطنبول بأنهم «خنازير». وفي المقابل تشن السلطات الروسية في الشيشان حملة ضد الجمعيات الخيرية التركية العاملة في الشيشان، وقامت في هذا الصدد بإغلاق المدارس التي يديرها الداعية التركي فتح الله غولن، ولاتزال أنقرة تنتظر من موسكو إعلانا رسميا بأن حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا «منظمة إرهابية». ولاتزال تركيا تشك في الأهداف الروسية وراء سعيها في التوصل إلى تسوية للنزاع حول إقليم نغورني كارباخ، بين أرمينيا وأذربيجان. ويرى الكثير من الأتـراك أن روسيا تريد من خلال هذه التسوية، دفع تركيا إلى إعادة علاقاتها مع أرمينيا وفتح حدودها المغلقة معها، علما بأن دوريات روسية مازالت تقوم بدوريات منتظمة على الحدود، كما لو أن الحرب الباردة لم تنته.