إحباط شعبي من توجّه مصر إلى مصالحة رجال الأعمال الهاربين
أثار توجه السلطات المصرية إلى التصالح مع أكثر من 75 رجل أعمال، هربوا من البلاد بعد ان استولوا على 245 مليار جنيه مصري منذ نهاية التسعينات، جدلاً في الشارع المصري، وتصدرت القضية المسرح السياسي والاعلام بشكل خاص بعد عودة سيدة الأعمال هدى عبدالمنعم، التي كان يطلق عليها لقب «المرأة الحديدية»، وذلك بعد فترة هروب مدتها 22 عاماً، أمضت معظمها في اليونان بجواز سفر مزور يحمل اسم زوجة بواب وحارس عمارتها (صفية محمد علي) في أعقاب قيام العديد من البنوك والأفراد برفع مئات القضايا ضدها بسبب عدم الوفاء بالتزاماتها المادية تجاههم.
وتوزعت الآراء بين اعتبار الهاربين مجرمين تجب محاكمتهم حتى لو سددوا مديونياتهم، ومن يعتبر التسديد دليل حسن نية وفائدة للاقتصاد المصري.
رئيس مركز العربي للادارة والتنمية الدكتور صلاح الدسوقي، اعتبر ما يحدث الآن كارثة حقيقية على البلاد لأنه يشرع للفساد، ولإفلات المجرمين من العقاب وهو دليل على حجم الفساد وتغوله في مصر، فكيف يسمح لمن حصل على أموال البنوك بالتحايل وهرب بها وأعاد استثمارها ليجني عشرات أضعافها في الخارج، بالعودة والتصالح ورد اصل الدين فقط؟ إن هذه الطريقة تسبب خسائر فادحة للاقتصاد الوطني تضرب الثقة بالدولة المصرية وقوانينها، ما يساعد على تشكيل عصابات لتهريب الاموال من رجال الاعمال وموظفي البنوك ويدمر تماماً فكرة الاقتصاد الوطني.
وحذر دسوقي من أن «سيطرة رجال الاعمال على السلطة هو ما دفع في اتجاه تبرئة هؤلاء الفاسدين ممن يطلق عليهم رجال اعمال»، وطالب بمقاومة الفساد الذي يسمح لهؤلاء بسرقة أموال البلد والهروب من العقاب. وشدد على أن كل المديونيات التي تخص قضايا البنوك ورجال الأعمال صنعتها الحكومة، ما يعني أن الحكومة كانت شريكًا في ضياع الأموال العامة.
أما عضو مجلس ادارة بنك الإسكان حمد نجيب، فيرى ان «التسامح مع الهاربين يمكن ان يؤدي الى تدمير فكرة البنوك القائمة على ثقة المودعين، ولا يوجد بنك قادر على الاستمرار مع نهب أمواله وتدمير سمعته».
وقال إن «معرفة الناس بالعقوبة هي التي تمنعهم من ارتكاب الجريمة، فإذا كان من هرب سيسدد فقط أصل الدين ويعود رجل أعمال ويمكن ان يخدع الناس بالتبرع للفقراء من أموال البنوك، فلماذا لا يفعل ذلك؟».
ويتساءل نجيب عن السبب الذي يدفع مصر الى عدم اللجوء إلى مقاضاة بعض رجال الأعمال الهاربين بمبالغ ضخمة خارج حدود البلاد، أو طلب القبض عليهم بالتنسيق مع «الانتربول» الدولي ليمثلوا أمام جهات التحقيق، على الرغم من معرفة أماكنهم في فرنسا وانجلترا وكندا والبرازيل. وقال إن الهاربين أصبحوا نجوم اقتصاد وفضائيات في الخارج، كأننا نكرمهم على ما فعلوا.
ويرى مساعد وزير الداخلية الاسبق لمباحث الأموال العامة اللواء فاروق المقرحي أن «الدولة تقوم بتسوية ديونها على حساب البنوك والمودعين، وان التعديلات أتاحت لرجال الاعمال التلاعب بأموال البنوك لأنهم أصبحوا يثقون بأنهم سيحصلون على تصالح مهما طالت مدة امتناعهم عن التسديد، ما شجع الكثير منهم على المماطلة في التسديد، بخلاف الحصول عليها بطرق غير قانونية وإنفاقها في غير الغرض الذي منحت لأجله، والصرف ببذخ واستفزاز لأبناء المجتمع غير القادرين على الحصول عليها».
وأشار المقرحي الى أن «البنوك تقوم بمخالفة الاعراف المصرفية في اجراء القروض تحت دعوى الانفتاح وتشجيع الاستثمار، إضافة إلى التعليمات التي صدرت بعدم تدخل الاجهزة الرقابية في أعمال البنوك ساعدت على توسيع دائرة المخالفات». وقال ان التفاوض لعودة الهاربين خلق وضعا عجيبا، حيث أصبح التفاوض بين طرف قوي وهو المدين المتعثر، وطرف ضعيف هو الدولة والبنوك، واصبح لزاماً على الضعيف الخضوع لطلبات القوي الذي يقيم في لندن، وحتى المقيمين في مصر لا يقترب منهم أحد».
وتابع ان «هناك 10 من كبار المدينين داخل البلاد متوقفين عن السداد يظهرون في وسائل الإعلام المختلفة أعضاء في الحزب الحاكم ولجنة السياسات، وبعيدون عن أية مساءلة، وأكد انهم يتلقون مساعدات اخرى عبر تخصيص ملايين الأمتار من الاراضي بأسعار رمزية وبيعها وتكوين ثروات طائلة».
وأوضح المقرحي، أن مصر خسرت أكثر من 39 مليار جنيه من اقتصادها بقانون التسويات الذى يعفي رجال الأعمال الهاربين من السجن والعقوبة بمجرد سداد بعض مديونياتهم، وفقاً للتسويات القانونية الجديدة، الصادرة في عام ،2004 وينص على أنه في حالة سداد مديونية رجل الأعمال الصادر بشأنه حكم بالحبس ترفع عنه العقوبة ويخلى، ويرفض تسميتهم بالمتعثرين لأنهم نهبوا أموال البلد مع سبق الاصرار والترصد، واتهم الدولة بالتعامل مع هذا النوع من رجال الأعمال بمكيالين الأول ألزم البعض بسداد كامل المديونية، والثاني سهل له طريق الخروج من الورطة بسداد جزء من المديونية فقط، وإعدام البقية، وهناك رئيس أشهر بنك في مصر كان يتباهى بأنه صانع المليارديرات المصريين، وتبين أن من صنعهم هم الذين نهبوا أموال البنوك وجعلوها عرضة للإفلاس».
أشهر الهاربين
شغل رجال الأعمال الهاربون الرأي العام وحفلت بهم الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وتحولوا الى نجوم يحفظ الناس أسماءهم، وعلى رأسهم كل من رامي لكح الذي بلغت ديونه 600 مليون جنيه لبنك القاهرة، توقف عن سدادها وفر هارباً خارج البلاد، لكنه وقّع على تسوية أخيراً، جار الانتهاء منها ومتوقعة عودته قريباً.
وهناك عمرو النشرتي الذي بدأت قصته منذ 2002 عندما عقد اتفاقاً مع وزارة التموين لتطوير فروع المجمعات الاستهلاكية، لكنه وقّع شيكات للدائنين ومنهم البنك الأهلي وبنك قناة السويس وعدد كبير من التجار، وعندما حان وقت السداد لم يستطع الوفاء ولم يستطع دفع رواتب العاملين، وصدر حكم ضده بالحبس 15 سنة، فهرب من مصر عند أخيه هشام في سويسرا. أما توفيق عبدالحي رجل الأعمال المصري، فهو صاحب أول قصة هروب، فقد هرب سنة 1982 عقب استيراد 1426 طنًا من الدواجن الفاسدة وبيعها للمصريين، بالإضافة إلى 25 قضية نصب واحتيال، وإصدار شيكات من دون رصيد بعد أن حصل على 45 مليون دولار من ثلاثة بنوك كبرى دون ضمانات أو مستندات، وعندما استدعته النيابة اكتشفت هروبه إلى سويسرا أيضًا، وقيل إنه كان على صلة بعثمان أحمد عثمان. وهناك أيضاً مصطفى البليدي، فقد صدرت ضده أحكام بالسجن لمدة 22 سنة ما بين جناية تهرب ضريبي وجناية تزوير وإصدار 18 شيكًا وثلاث قضايا محكوم عليه فيها بالحبس لمدد جملتها ست سنوات، لكنه عاد متخفيًا وتم القبض عليه لدى وصوله. وهناك أشرف السعد صاحب شركة توظيف الأموال الشهيرة، الذي سافر إلى فرنسا في عام 1995 للعلاج وظل في الخارج منذ ذلك الحين بعدما تم توجيه اتهام إليه بعدم رد 188 مليون جنيه للمودعين في قضية توظيف الأموال الشهيرة. وهناك بعض رجال الأعمال الذين عطلت قرارات منع سفرهم ساعات عدة للسماح لهم بالخروج بشكل طبيعي من مصر قبل صدور القرار، مثل ممدوح إسماعيل رجل الأعمال مالك العبارة السلام 98 التي غرقت في مياه البحر الأحمر، وراح ضحيتها أكثر من 1000 مصري. |
على الصعيد القانوني، يرى رئيس محكمة جنايات القاهرة المستشار فريد نصر، أن إثبات التصالح مع البنوك أمام النائب العام يوقف التنفيذ، لا توجد جدوى للحبس مادام الشخص سدد ما عليه من ديون، وهناك تعديل تشريعي بإلغاء عقوبة الحبس تسهيلا على العملية التجارية، وهو ما أخذ به القرآن (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، المهم صدق النيات».
ويعتقد المحامي عادل الشاروني، أن «معظم رجال الأعمال الهاربين خرجوا من البلاد وفق خطط قانونية محددة عبر كبار المحامين الخبراء في القانون الدولي، وأنهم اختاروا الإقامة فى دول أوروبا خصوصاً بريطانيا وفرنسا واليونان وسويسرا لعدم وجود اتفاقيات تبادل المتهمين مع مصر بزعم أنها مازالت تطبق عقوبة الإعدام».
وتشير بعض التقارير إلى أن السلطات البريطانية تستفيد من عدم تسليم رجال الأعمال الهاربين إليها سواء كانوا مصريين أم من جنسيات أخرى، حيث إن حجم الاستثمارات لرجال الأعمال الهاربين في لندن يبلغ 40 مليار دولار، لذلك فإن بريطانيا من أكثر الدول تشددًا في تسليم رجال الأعمال المطلوبين إلى الدول التي تطلب تسليمهم.
وبلغ عدد العائدين من الخارج الذين تم استعادتهم 75 شخصاً من إجمالي 100 شخص، من أبرزهم غطاس وليام رجل أعمال قام بالحصول على مبلغ 50 مليون جنيه من البنوك وتم الحكم عليه بالسجن، واستطاعت أيضًا أجهزة الأمن استعادة متهم في قضية الآثار الكبرى وهو سوري الجنسية علي أبوطعيمة، الذي اشترك مع طارق السويسي في القضية المسماة بقضية الآثار الكبرى، حيث تبين أنه مقيم في بلغاريا وتم ضبطه وإعادته إلى مصر مرة ثانية، وقد تم استعادة متهم آخر من دولة الكويت هو إبراهيم صلاح الذي استولى على أربعة ملايين جنيه من المواطنين، بالإضافة إلى ضبط رجل أعمال من السودان كان قد استولى على 100 مليون جنيه من المواطنين.