جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. أرشيفية

العرب يتابعون واقعة «14 نـوفمبر» الكروية اليوم

بإصدار وزارة الخارجية المصرية الثلاثاء الماضي بياناً تطالب فيه شعبها بضبط النفس في أثناء مباراة كرة القدم بين بلدها والجزائر، وإصدار نظيرتها الجزائرية بيان إدانة لاعتداء على فريقها في القاهرة أول من أمس، دخلت موقعة 14 نوفمبر رسمياً تاريخ العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الشقيقتين العربيتين، مؤشرة على أن الكرة أضحت مكوناً معترفاً به في السياسة العربية، ومؤكدة أن مصير الأمة من الآن فصاعداً أصبح معلقاً مرة في رأسها، ومرات في أقدام لاعبيها.

 
فلسطين نفسها ضاعت

شاركت مصر في 1971 في كأس فلسطين لكرة القدم، وهي الكأس التي كانت تشرف عليها جامعة الدول العربية، وعاد منتخب مصر بعدما خسر الكأس التي فازت بها العراق. وفي مطار القاهرة، هاجم صحافيون مدرب مصر الكابتن محمد الجندي، كيف يخسر كأس فلسطين ونحن نمتلك أقوى فريق، من المسؤول عن الكارثة؟ ومن يتحمل مسؤولية المصيبة إذا لم يتحملها المدرب؟ قال الجندي رداً على الهجوم: «جايين تتهموني وتحاسبوني وتحملوني المسؤولية عن ضياع كأس فلسطين، دا فلسطين ذات نفسها ضاعت، وما حسبتوش إللي ضيعوها، جايين تحاسبوني أنا على ضياع كأس فلسطين».
 
 
حرب هندوراس والسلفادور

في تصفيات بطولة كأس العالم لكرة القدم ،1970 وقعت السلفادور وهندوراس في مواجهة حاسمة لتحديد الفريق الذي سيتأهل إلى المباراة النهائية على ملعب المكسيك. ففي المباراة الأولى، فازت هندوراس على ملعبها، واعتدت الجماهير الهندوراسية على الجماهير الفقيرة من أنصار السلفادور. وتطورت الأمور إلى مهاجمة الأحياء التي يقيم فيها سلفادوريون، ما دفع الآخرين إلى الفرار إلى بلادهم، تاركين ممتلكاتهم وبيوتهم، وقدمت السلفادور شكوى للأمم المتحدة وهيئة حقوق الإنسان. وبعد أسبوع واحد، فازت السلفادور في ملعبها، ونال أنصار هندوراس نصيبهم من الاعتداءات.

في 14 يوليو ،1969 كان موعدالمباراة الفاصلة بين هندوراس والسلفادور، فازت فيها السلفادور وتأهلت. ومع نهاية اللقاء، كانت الدولتان قد نشرتا قواتهما على طول الحدود بينهما. وفي 3 يوليو، انتهكت طائرة من هندوراس أجواء السلفادور، وأطلقت على كتيبة من السلفادور النيران داخل الأراضي السلفادورية، ما أدى إلى قيام السلفادور بهجوم واسع النطاق، ودخلت القوات السلفادورية إلى مسافة 40 كم، ولم تتورع هندوراس، بل أرسلت طائراتها لضرب مدينة سان سلفادور وأكابوتلا بالقنابل. وبعد أسبوعين وتدخل الواسطات من الدول، توقفت الحرب، بعد أن أدت إلى دمار كبير وخسائر في الأرواح.

ليست جديدة علاقة الرياضة بالسياسة، فقبلها فعلها هتلر -وبعده عشرات- حين «سيس» أولمبياد ،1936 لكن ما يحدث بين القاهرة والجزائر تحشيد شامل بين أمتين أقرب إلى أجواء حرب، قمته نزول سري مفاجئ للرئيس المصري حسني مبارك لمعسكر تدريب اللاعبين قبل المباراة بـ48 ساعة (ثم مكالمة منه لنظيره الرئيس الجزاذري عبد العزيز بوتفليقة)، وقاعدته مظاهرات تحرق علم مصر في الجزائر وكتابات في شوارع القاهرة تقول إن الجزائر بلد المليون شهيد و،11 في إشارة تهديدية للفريق الضيف.

شمل التحشيد الجميع من منتديات الشات التي أصبحت ساحة للمعارك، إلى الفنانة فيفي عبده التي دخلت في تراشق مع زميلاتها من الراقصات الجزائريات، إلى الفنانة وردة الجزائرية، إلى صحف شن الهاكرز هجمات لإغلاق مواقعها الإلكترونية، فنجحوا في تخريب بعضها، مثل موقع جريدة الشروق الجزائرية، إلى قنوات تلفزيونية تخلت صراحة عن مبدأ الحياد، مثل قناة الحياة المصرية التي غطت حادث الاعتداء على فريق الجزائر أول من أمس بنفس تعبوي، وإلى مخرجي أفلام تسجيلية نجح الجزائريون منهم في إنتاج فيلم «قلب شجاع»، بينما أنتج المصريون في المقابل أغنية راب باسم «مابنقبلش الإهانة».

وشمل التحشيد أيضاً برلمانيين وإعلاميين وساسة، وحتى المحاولات العاقلة التي قام بها مثقفون لهم رصيدهم، كالشيخ يوسف القرضاوي والمفكر القومي محيي الدين عيمور والفنان محمد منير، ضاعت في أدراج الرياح، بل تحول بعضها إلى وقود في المعركة.

ويرى مراقبون أن أخطر ما في معركة 14 نوفمبر أنها «اخترعت» تاريخا زائفا في العلاقة بين البلدين. فقد نظر (بتشديد الظاء) نقاد رياضيون «قليلو الذمة» بأن التوتر المصري الجزائري قديم، ومصدره أن المصريين رفضوا استقبال فريق كرة يدعو لاستقلال الجزائر في أثناء حربها التحريرية في الخمسينات، ونسي أصحاب هذه «الرواية اللقيطة» مشاركة مصر للجزائر كتفاً بكتف في حرب تحريرها منذ 1954 وإرسال الجزائر لمعظم سلاحها الجوي لمصر في حرب .1973

على صعيد مقابل، يتحفظ نقاد على «الرؤية التطهرية»، والتي ترى أن الرياضة كانت بعيدة عن السياسة، ويقولون إن ما يحدث اليوم لم يولد في يوم وليلة، ويضربون مثالاً على ذلك بأن أول ما فعله الضباط الأحرار في مصر في 1952 هو تحويل نادي فاروق إلى نادي الزمالك، وكذلك بترؤس المشير عبدالحكيم عامر الذي كان الرجل الثاني في مصر عبدالناصر لاتحاد الكرة منذ .1961

ويرفض الناقد الرياضي سعيد وهبة منطق إبعاد الكرة عن السياسة الكلية، فهو يرى الشعوب تحب أن ترى رؤساءها في المناسابات الرياضية، لكنه يرصد جذور الاستغلال السياسي السلبي لكرة القدم في مصر، عندما أراد عبدالحكيم عامر إلهاء الشعب المصري عن كارثة الانفصال عن سورية، فطلب من «أخبار اليوم» تنظيم دورة مع البرازيل، عندما عين 30 لاعباً ضباطا في الجيش من دون أن يكونوا كذلك، من بينهم صالح سليم ورفعت الفناجيلي ومصطفى الشاذلي وحنفي بسطان ويكن، بل وإحالة خصوم عامر هؤلاء اللاعبين للتقاعد للتشفي منهم، بعد هزيمة ،1967 وكأنهم من تسببوا فيها.


 

 

 

 الملك فاروق.

ويروي وهبة مواقف طريفة لعلاقة الكرة بالسياسة، منها «مناغشة» حصلت بين فؤاد سراج الدين الأهلاوي والملك فاروق الزملكاوي، حين أحرز «الزمالك» هدفاً في «الأهلي» فقال سراج الدين «الأهلوية» مرروا الهدف فقط تحية لجلالتك». وموقف آخر صاح فيه المشير عامر بالمدرب في أثناء مباراة بين مصر واليونان (عاوز قتال في الملعب -عاوز حرب)، ففهم المدرب بأن المطلوب تنزيل اللاعب الدهشوري حرب فأنزله فوراً.

ويروي الصحافي المصري أحمد فكري رواية طريفة عن خيبة أمل 25 برلمانياً مصرياً تكالبوا على مهاتفة مدرب المنتخب المصري حسن شحاتة بعد حصوله على كأس أمم إفريقيا، لكن شحاتة تجاهلهم لمدة يومين، متعللاً بانشغالاته.

يتبقى أن هناك من يرون أن الأمور مضت أبعد بكثير من هذا المستوى البسيط، ويرون أن كرة القدم أضحت وسيلة للحكومات العربية لإلهاء شعوبها عن واقعها المر، بل هناك من يرى أصابع خارجية لتأجيج عرب على عرب، ويضربون مثلاً بحملة قادتها صحيفة «بديعوت أحرنوت» وصحف إسرائيلية أخرى لتأجيج الاحتقانات الرياضية بين الشقيقتين العربيتين مصر والجزائر ، وبالمقال الذي نشرته «الغارديان» البريطانية، وسمت فيها لقاء اليوم بـ«مباراة الكراهية».

وهنا، لا يمكن القول إلا أن كل هذه الرؤى صحيحة جزئياً. فهناك الرياضة وهناك اللعبة الحلوة وهناك السياسة وهناك المؤامرة. فكم هي صعبة مهمة جمهور اليوم أو «قوى 14 نوفمبر» التي ستحدد مصير علاقة شعوب ومنطقة في ما لن يزيد غالباً على 90 دقيقة.

 

مشجعون مصريون لمنتخب بلادهم. إي.بي.أيه        جمهور جزائري يشجع منتخب بلاده. إي.بي.أيه 

الأكثر مشاركة