جميلة بوحيرد تطلب المساعدة المادية للعلاج
أغلب الظن أن اسمها عالق في ذاكرة الأجيال الجزائرية والعربية الجديدة، ويقيننا أنه متربع بكل قوة في ضمير أبناء أجيال الستينات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إنها جميلة بوحيرد أول وأبرز مناضلة عربية ضد الاستعمار، تلك التي ضربت مثلاً رائعاً ليس للمرأة العربية فحسب، بل وفي كل بقاع العالم حتى أصبحت شعلة إلهام لمناضلات عربيات حملن الراية من بعدها مثل ليلى خالد ودلال المغربي وسها بشارة وغيرهن.
ليس هذا وحسب، فقد ألهبت بوحيرد قريحة الشعراء العرب الذين تنافسوا في نظم القصائد التي أشادت بما قامت به من نضال ضد المستعمر الفرنسي، فمن بدر شاكر السياب إلى محمد مهدي الجواهري إلى نزار قباني وصلاح عبدالصبور وغيرهم. ولقيت التكريم والحفاوة من مصر عبدالناصر والثورة الفلسطينية والعراق ودول عربية واسلامية عدة. وبعد عقود قضتها في حياة هادئة في الظل بعيداً عن السياسة وصراعات السلطة ها هو اسم هذه المجاهدة العربية وهي في العقد السابع من عمرها يطفو بقوة على سطح الأحداث في الساحة العربية ولكن ليس لتسطير المزيد من صفحات المجد هذه المرة، وإنما لتطلق صرخة ألم تشكو فيها حالها المادي وتطلق بكل تعفف نداء استغاثة تطلب فيه بكل كرامة من بلدها الجزائر رئيساً وحكومة وشعباً مساعدتها من أجل العلاج من مرض القلب وامراض اخرى، ما سبب صدمة كبيرة للشعب الجزائري الذي يعتبرها (أيقونة) لكرامته ومقاومته العنيدة للاستعمار الفرنسي، وحرجاً للرئاسة والحكومة والوزارة ذات الاختصاص وهي وزارة شؤون المجاهدين،
صدمة وحرج
فقد كسرت المناضلة بوحيرد جدار الصمت، الذي ظلت تحيط به نفسها منذ الاستقلال قبل نحو نصف قرن، لتصرخ بمرارة شاكية الفقر والحاجة لاستكمال علاجها من شعبها وبلدها وقالت «ما أنطقني هو المرض الذي بدأ يحاصرني»، كما كشفت أنها تلقت بعد نداء استغاثتها اتصالات من مختلف مسؤولي الدولة وشخصيات مرموقة من دول الخليج يواسونها ويعرضون عليها المساعدة مجدداً لحل مشكلتها، إلا أنها رفضت عروضهم وعبرت عن شكرها وامتنانها.
وفجر هذا جدلاً عميقاً وموسعاً بين الجزائريين في الصحف وعلى مواقع المنتديات والفيس بوك على الإنترنت، حيث ذهب بعضهم الى اتهام الجهات الرسمية بالتقصير ليس في حق بوحيرد، بل غيرها من المجاهدين وتعمد تهميشهم وإهمال أوضاعهم وتجاهل احتياجاتهم. وتزاحمت التساؤلات كثيرة في هذا الشأن مثل كيف تتردى الأحوال المادية والاجتماعية لمناضلة كبيرة بوزن وسمعة ووطنية جميلة بوحيرد لتطلق نداء استغاثة طالبة العون وكاشفة عن عوزها؟ ولماذا وكيف يحدث هذا في الجزائر بلد ثورة المليون شهيد والغني بالنفط والغاز؟
وتباينت مواقف الجزائريين بين مؤيد بقوة ومتفهم ومتحفظ ومتشكك، ومنها ما يقوله نقيب المحامين الجزائريين المجاهد عمار بن تومي، الذي قال «أنا موافق 200٪ على ما قامت به جميلة، لأن من غير المعقول أن تبقى من غير علاج وهي التي ضحت وقدمت الكثير من أجل هذا البلد ». واضاف أن السلطة الجزائرية كانت قد عرضت على بوحيرد العديد من المناصب ولكنها رفضتها، مضيفاً أنه كان على الحكومة الجزائرية أن تتكفل على الأقل بعلاجها كما تكفلوا بعلاج غيرها، مشيراً إلى أنها تقدمت بطلبات للعلاج ولكنها لم تجد استجابة لطلباتها المتكررة. ومن جانبها قالت المجاهدة لويزات إحريز إنها تخشى من توقيت خروج بوحيرد بهذه الرسالة، وتبدي بعض التحفظ قائلة إنها «لم تفهم شيئاً مما فعلته بوحيرد وإنها شاهدتها في ذكرى الثورة في أول نوفمبر الماضي تتجول مع الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، الأمر الذي دفعها إلى التوجس من أن تكون بوحيرد قد راحت ضحية تضليل من أطراف لم تسمها، غير أنها تمنت أن يكون ما توقعته غير صحيح». وتابعت «لم أجد تفسيراً لما حدث، ولكن قيل لي إن بوحيرد تتمتع بتكفل تام من الرئيس بوتفليقة»، حيث جمعه معها حديث مطول في احتفالية عيد الثورة الأخير بقصر الشعب، وبحضور عدد كبير من الشخصيات التاريخية، وعرضت عليها عضوية مجلس الامة، لكنها رفضت، وفسرت المجاهدة فاطمة أوزقا رفيقة درب بوحيرد ما حدث بقولها، إن جميلة انتقلت إلى باريس للعلاج بعدما حصلت على تكفل من الدولة، ولكن وجدت نفسها في فندق غير لائق للإقامة، وعندما اشتكت للسفير الجزائري بباريس -ميسوم صبيح - لم تجد منه التجاوب المطلوب، فقررت فور عودتها إلى الجزائر كشف المستور والحديث عما تعرضت له من إهانة، حيث وجهت رسالة إلى الرئيس بوتفليقة ورسالة ثانية إلى الشعب الجزائري، تشرح فيهما مجمل ظروفها الاقتصادية والمادية والصحية.
الشهيدة الحية
لقب طالما كان محبباً لها، أطلقه عليها رفاق دربها في النضال بسبب عملها الصامت والدؤوب في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وطبيعتها التي تميل إلى الهدوء، ومن أسباب إطلاق هذا اللقب عليها ايضاً ما تسرب من معلومات عن تعرضها للتعذيب الشديد على مدى ثلاثة ايام فور اعتقالها عام ،1957 وهو التعذيب الذي دفع كثيرين من ابناء شعبها الى الاعتقاد بأنها استشهدت، كما حكم عليها بالاعدام عقب اعتقال الفرنسيين لها، ولكن تحت الضغط العربي والدولي على المستعمرين تم تخفيف الحكم الى السجن المؤبد، ولكنها لم تمكث غير خمس سنوات، حيث تم اطلاق سراحها عقب التوصل لاتفاق اطلاق النار والذي مهد لاتفاقية استقلال الجزائر عام .1962 |
وعقب إطلاق ندائها قالت المناضلة العربية الكبيرة، إنها تأثرت كثيراً بمدى المساندة والتضامن الشعبي الكبير عربياً ودولياً، وأعربت عن شكرها لمواطنيها في كل مكان، بينما نقلت مصادر أن بعض المجاهدين الذين شاركوا في ثورة التحرير يعانون من ظروف قاهرة، الأمر الذي يفنّده المسؤولون الجزائريون جملة وتفصيلاً.
روايات أخرى
ومن جهته عبر وزير التضامن الوطني جمال ولد عباس عن استغرابه من نداء الاستغاثة الذي اطلقته بوحيرد، وأكد أن «الرئيس بوتفليقة أعطى تعليمات صارمة للتكفل بها وبكل الحالات المشابهة، وأن الرئيس يتجاوب بسرعة مع هذه الحالات»، وأوضح أنه لا توجد مشكلة للتكفل بعلاج أي مواطن مهما كانت تكلفة العلاج في الخارج، وان الجزائر لا يمكنها أن تتخلى على مجاهدة مثل جميلة بوحيرد، وذكّر بأنها استفادت من خدمات طبية عدة في السابق، كما شارك وزير الاتصال الجزائري الأسبق محي الدين عميمور، في النقاش الدائر حول القضية فقال: «بعد أن قرأت رسالة بوحيرد طلبت مقابلة وزير العمل والشؤون الاجتماعية - الطيب لوح - واستقبلني الرجل على الفور، وواجهته باستيائي، فأخرج لي ملفاً كاملاً، يؤكد أن المجاهدة الكبيرة أرسلت على نفقة الدولة وبتعليمات مباشرة من الرئيس بوتفليقة إلى أهم مستشفيات باريس في نوفمبر 2006 وفي فبراير .2008 وكان سفرها بالدرجة الأولى مع المرافق الذي اختارته وهو أخوها، واطلعت بنفسي على أوراق المستشفى وصور تذاكر الطائرة، ويبقى أنني لا أعرف ما وراء هذا كله، وأشهد أن بوتفليقة لم يقصر إطلاقاً في ما يتعلق بعلاج المجاهدين». ورفض وزير المجاهدين محمد شريف عباس، الخوض في الموضوع، واكتفى بالرد على استفسارات الصحافيين قائلا: «اعفوني من الحديث في الموضوع»، وهو الموقف ذاته الذي تبنته المجاهدة والوزيرة السابقة، زهور ونيسي، التي رفضت هي الأخرى إبداء رأيها في قضية بوحيرد، وقال الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين، سعيد عبادو: «إن أبواب المنظمة مفتوحة لجميع المجاهدين، لبوحيرد وغيرها، ومن يأتي نتكفل به في إطار القانون وفي حدود صلاحيات المنظمة». وكانت بعض الصحف قاسية للغاية في تناول موضوع بوحيرد والحكم عليها، حيث ذهب بعضها إلى القول إن «هذا الأمر لا يمكن أن يصدقه عاقل وغير صحيح، وهذه المرأة تخدم أجندة فرنسية»، وقد ولدت بوحيرد في حي القصبة بالجزائر العاصمة عام 1935 وكانت البنت الوحيدة بين سبعة أولاد، وواصلت تعليمها المدرسي ثم التحقت بمعهد للخياطة فقط لإشباع هوايتها في تصميم الازياء. ومارست الرقص الكلاسيكي وكانت بارعة في ركوب الخيل والتحقت بصفوف الثورة الجزائرية وهي شابة في الـ،20 وبفضل شجاعتها النادرة في ميدان المعركة، عينها قائد حرب الشوارع في العاصمة ياسف سعدي، «ضابط اتصال»، ومساعدة خاصة له. وتخصصت في وضع القنابل في الأماكن التي يتردد عليها الفرنسيون في العاصمة، وشاركت في اشتباكات كثيرة بالسلاح الناري مع جنود الاحتلال، وأصيبت في أحدها بجروح بليغة، تسببت في القبض عليها واعتقالها لتتم محاكمتها صورياً وتحكم بالاعدام بالمقصلة، لكن الحكم لم ينفذ بفضل ضغط كبير مارسه فريق من أشهر المحامين الفرنسيين ونجاحهم في استقطاب ضغط دولي كبير على فـرنسا، حيث تــزوجت بـوحـيرد لاحقاً أحدهم جاك فيرجيه وعملت معه في مكتبه طويـــلاً وأنجبت منه مــريم وإليــاس. وبعد سنــوات طويــلة من الــزواج انفصلت عنه لأسـباب تــرفض بــوحيرد التحــدث عنها، وتعــيش المناضلة حالياً في شـقة من ثــلاث غــرف في الدور الـ،15 بإحــدى عمــارات حي المردايــــة الراقي، حيث تفوح منها رائحة الثورة والتاريخ الجميل، ذاك المكان الذي يوجد به مقر رئاسة الجمهورية ومبنى وزارة الخارجية، ويقيم به عبدالعزيز بلخادم، وزير الدولة الممثل الشخصي للرئيس بوتفليقة. ويقول جيرانها إنها تقيم بمفردها في البيت، وإن خادمة ترعى شؤونها طول النهار على نفقة الدولة.
وتعرف العالم على شخصية بوحيرد من خلال فيلم «جميلة»، الذي يحكي مسارها النضالي، والذي أخرجه الراحل يوسف شاهين عام ،1958 وحصل على جوائز عدة ولقي إقبالاً كبيراً.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news