شرطة شيكاغو تخلت عن استراتيجية المداهمات وتعمل على تقديم الخدمات حتى في غير مجالات اختصاصها. غيتي

‏شرطة شيكاغو تكسب ودّ السكان للقضاء على الجريمة‏

‏تشتهر مدينة شيكاغو بمستويات الجريمة العالية والازدحامات المرورية الخانقة، في الوقت الذي تحاول فيه سلطات المدينة التخفيف من الضغوط اليومية التي يواجهها سكان المدينة الذين يبلغ عددهم نحو ثلاثة ملايين نسمة. وفي السنوات الأخيرة غيرت الشرطة المحلية من استراتيجيتها، فلم تعد تركز على المباغتات والمداهمات ضد المجرمين وعصابات المخدرات.

‏محاكمة وهمية

في تجربة استثنائية في أميركا نظمت شرطة شيكاغو جلسات محاكمة «وهمية» شارك فيها شباب من أحياء المدينة، لمحاكمة مراهقين ارتكبوا جنحاً بسيطة. ويقوم بعض الشباب بتقمص شخصيات القاضي والمدعي العام، في حين يجلس 10 مراهقين على الجانب ليمثلوا دور المحلفين. ويدير أحد الضباط الجلسة التي تدوم نحو ساعة.

وتسعى أجهزة الأمن إلى كسب المواطنين من خلال تقديم الخدمات المختلفة لهم ومساعدتهم بشتى الطرق، حتى وإن كان الأمر بعيداً عن اختصاص الشرطة.

وفي هذا السياق تروي سيدة في إحدى ضواحي شيكاغو أن ضابط شرطة عثر على كلبها الضائع وأعاده إليها مع تقديم النصائح الضرورية للسيدة. ويقول سكان المقاطعة الإدارية رقم ،9 إن هذا السلوك أصبح مألوفاً لدى الخاص والعام، ما جعل الناس يغيرون نظرتهم تجاه أصحاب البزات الزرقاء.

يعيش نحو 165 ألف شخص في المقاطعة التاسعة، أغلبهم من أصحاب البشرة السمراء، وقد سعى عمدة المدينة إلى تغيير الملامح الكئيبة لبعض الشوارع من خلال تجديدها وهدم المباني القديمة، ثم بناء مرافق جديدة تضاف إلى ملعب كرة القدم الكبير الذي يعتبر أهم معلم في المنطقة.

وأصبحت الأحياء تعج بالمحال والمخازن التجارية، وأصوات الموسيقى الصاخبة تملأ الشوارع التي يرتادها الناس منذ الصباح الباكر. وعلى الرغم من التغييرات الإيجابية، فإن تجارة المخدرات لم تزل رائجة في مدينة تعتبر من أهم معاقل العصابات في الولايات المتحدة. ويقوم أفراد العصابات باحتلال المباني الآيلة للسقوط أو التي يتم إخلاؤها من طرف البلدية، وتصبح أوكاراً لتعاطي المخدرات وترويجها. وتتسابق العصابات للحصول على أماكن استراتيجية في الأحياء السكنية. والطريف في الأمر أن الثقافة المحلية أنتجت جيلاً مختلفاً تماماً عن الأجيال السابقة، حيث يتغنى بعض الشباب بأشعار كتبها زعماء العصابات، كما أصبحت نقاط توزيع المخدرات أو ما يطلق عليه في شيكاغو اسم «الزويا»، تحمل أسماء خاصة. ومن بين أسماء الزويا الرائجة «أتباع العصابة»، و«التنانين اللاتينيون»، و«الأسياد الأسبان»، و«كوبرا ميكي»، وغيرها من المسميات التي عادة ما تطلق على فرق كرة السلة. وتتميز كل مجموعة عن الأخرى من خلال ألوان خاصة وتعمل ضمن حدود معينة لا يجوز أن تتخطاها.

يقود مركز الشرطة في المقاطعة التاسعة ديفيد جيرموس، وهو ضابط متمرس في ملاحقة المجرمين والعصابات. وتخرج جيرموس في أكاديمية مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» في فرجينيا، وعمل في كتيبة التدخل السريع في عدد من الولايات. وفي الوقت الذي يحافظ فيه جيرموس (58 عاماً)، على لياقته البدنية، يحاول أن يكون مرناً في التعامل مع أفراد العصابات والمشتبه فيهم. وقد أصبحت السلطات تفضل التركيز على التواصل مع الناس، الأمر الذي يجده الضابط المرح سهلاً، فهو يبدو من الوهلة الأولى شخصاً لطيفاً يحب الدعابة ويفضل التعاطي مع المسائل بمرونة. وعلى الرغم من تشديد تطبيق القوانين في المدينة، فإن ظاهرة استخدام السلاح لم تزل تؤرق جيرموس والعناصر الذين يديرهم، والبالغ عددهم 328 عنصراً. وتأخذ ظاهرة العنف منحى خطيراً في المقاطعة التاسعة، حيث شهدت 14 اشتباكاً مسلحاً، مطلع العام، بين العصابات تارة وبين المجرمين والشرطة تارة أخرى. وتعتبر الشوارع الفرنسية الأكثر تضرراً، حيث تحدث فيها أغلب المواجهات، كما تشكو تفشي تشرد المراهقين.

استراتيجية بديلة

يسعى المسؤولون في المدينة إلى إعادة النظر في السياسة الأمنية ومحاولة التعاطي مع شريحة المراهقين والشباب بمرونة، ومعرفة الأسباب التي تؤدي إلى انحراف هذه الفئة وانخراطها في سلك الجريمة وتجارة المخدرات.

وفي ظل تناقض الإحصاءات والبيانات حول ضحايا الجريمة والأشخاص الذين لديهم سجلات في مراكز الشرطة والمحكوم عليهم في قضايا جنائية، تقول المؤسسات والهيئات المدنية في شيكاغو إنه يجب العمل بجدية أكبر لمعالجة المشكلات اليومية التي تعاني منها نسبة كبيرة من الشباب العاطلين عن العمل. ويقول المسؤول في الشرطة، بروس ليبمان، الذي أشرف على إحصاءات ضحايا الجريمة حتى ،2009 إن «الشرطة التقليدية لم تعد ناجعة، ومضاعفة الاعتقالات لا تعني أننا بذلك نحل المشكلات». ويضيف «لقد قمنا بآلاف الاعتقالات في نقاط بيع المخدرات ولم نتمكن من القضاء على الظاهرة. ما ينقصنا الآن هو استراتيجية جديدة للتعاطي مع معضلة المخدرات التي تتسبب في أكبر عدد من الجرائم في المدينة». ويعتقد ليبمان أن الاعتماد على البيانات التي توفرها الإحصاءات والدراسات لم يعد ذا قيمة حقيقية.

تعتزم مدينة شيكاغو تطبيق سياسة جديدة تعزز التعاون بين الشرطة وأفراد المجتمع، أطلق عليها اسم «استراتيجية شيكاغو البديلة لحفظ النظام». وهي استراتيجية قريبة من «الشرطة المجتمعية» التي تبنتها حكومة رئيس الوزراء الفرنسي السابق ليونيل جوسبان، إلا أن نيكولا ساركوزي تخلى عنها بعد ذلك، عندما أصبح وزيراً للداخلية، في .2002

وتهدف استراتيجية شيكاغو الجديدة إلى إرساء حوار بين الأهالي ورجال الشرطة وتعزيز التعاون بين الجانبين، من أجل مواجهة الجريمة والقضاء على أسبابها قدر الإمكان. وفي ذلك يقول جيرموس، قائد شرطة المدينة، «نلتقي بممثلين عن السكان، كل شهر، لمعرفة الأولويات والاهتمامات، ونشرح لهم ما قمنا به، الأمر الذي يجعل عملنا شفافاً ومجدياً، حيث نحصل على الكثير من المعلومات من المواطنين». ولم تعد الشرطة تقدم تقارير مفصلة للقيادة في الولاية فقط، بل تعرض كل المستجدات على المواطنين كذلك، وبشكل دوري.

تحديات كبيرة

توجد مكاتب في مركز شرطة شيكاغو، في المقاطعة التاسعة، متخصصة في تطبيق استراتيجية الحوار والتعاون. ويسهر على تطبيقها ضباط متمرسون أوكلت إليهم مهام مختلفة. ففي الوقت الذي يهتم فيه ضباط بفتح قنوات مع الأشخاص البالغين والمسنين، يقود آخرون حواراً مع المجموعات الدينية وشريحة المراهقين. ويدرك الرقيب مارتن لوغني، الذي يعمل في شعبة المراهقين، التحدي الذي يواجهه ويقول «هناك الآلاف من المراهقين المنخرطين في العصابات الإجرامية»، ويوضح أن هدفه «هو إنقاذ الأشخاص الذين انخرطوا في الآونة الأخيرة والمحافظة على المراهقين الذين سيتم الإفراج عنهم».

وتعايشت شيكاغو مع العنف منذ بداية النهضة العمرانية الكبرى في المدينة قبل نحو قرن، إلا أن السلطات سئمت هذا الوضع مثلها مثل الأهالي الذين أصبحوا يتوقون للأمن. وتطوع العديد من الأشخاص في محاولة لإنجاح الاستراتيجية التي تبنتها الشرطة. ومن بين هؤلاء السيدة مارلين بيبلز، التي تقوم بدور الوسيط بين الشرطة وبعض السكان الذين لايزالون يترددون في التعاون مع الأجهزة الأمنية. وقامت بإنشاء نادٍ في أحد الشوارع، قبل سنتين، وانضم اليه حينها 22 شخصاً فقط. وتشجع بيبلز السكان على الانضمام إلى النوادي المجتمعية وتعزيز دورها في حل مشكلات السكان.

مراقبة مكثفة

وتستخدم شرطة شيكاغو كاميرات للمراقبة متطورة من أجل مراقبة الشوارع المزدحمة نهاراً، والمتوترة ليلاً. ويصل عدد الكاميرات في المدينة إلى أكثر من 10 آلاف كاميرا، الامر الذي يجعل من شيكاغو المدينة الاكثر مراقبة للأماكن العامة فيها. ففي أقل من 10 سنوات، ومع القليل من المعارضة ربطت المدينة بآلاف الكاميرات، التي وضعت على أعمدة الشوارع وناطحات السحاب، وعلى متن الحافلات وقطارات الأنفاق، في شبكة تغطي معظم أجزاء المدينة، حيث يمكن للمسؤولين مشاهدة لقطات فيديو حية في مراكز الطوارئ المترامية الاطراف، ومراكز الشرطة وحتى بعض سياراتها. وتفيد شرطة شيكاغو بأن أكثر من 4000 حالة اعتقال تمت منذ أربع سنوات كانت بمساعدة الكاميرات.

ووجدت دراسة أجراها المعهد الحضري في واشنطن أن الجريمة في حي واحد، بمدينة شيكاغو، بما في ذلك مبيعات المخدرات والسطو المسلح وجرائم الأسلحة، انخفضت بشكل كبير بعد تركيب الكاميرات. وكإجراء وقائي تحظر الشرطة التجوال على الأشخاص دون سن ،17 ابتداء من الساعة العاشرة ليلا. وفي حال مخالفة القانون يتم اصطحاب المراهق إلى بيته، وتقديم النصح له بعدم تكرار المخالفة.

الأكثر مشاركة